تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا ؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ : هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ ؟ .
12345678910111213141516171819202122232425262728293031
فَصْلٌ وَالْحَاصِلُ : أَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَحْكَمَ فِي بِدْعَتِهِ يَرَى أَنَّ قِيَاسَهُ يَطَّرِدُ ; لِمَا فِيهِ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عِنْدَهُ - وَإِنْ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ كَثْرَةَ مُخَالَفَةِ النُّصُوصِ - وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ الْإِرَادِيَّةِ : تَجِدُ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَطَّرِدُ قِيَاسُهُ طَرْدًا مُسْتَمِرًّا فَيَكُونُ [ فِي ] ظَاهِرِ الْأَمْرِ أَجْوَدَ مِمَّنْ نَقَضَهَا وَتَجِدُ الْمُسْتَنَّ الَّذِي شَارَكَهُ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسِ قَدْ يَقُولُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ الْقِيَاسَ فِي مَوَاضِعَ ; مَعَ اسْتِشْعَارِ التَّنَاقُضِ تَارَةً وَبِدُونِ اسْتِشْعَارِهِ تَارَةً وَهُوَ الْأَغْلَبُ . وَرُبَّمَا يُخَيَّلُ بِفُرُوقِ ضَعِيفَةٍ فَهُوَ فِي نَقْضِ عِلَّتِهِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِيهَا يَظْهَرُ أَنَّهُ دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ وَطَرْدِ الْقَوْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ الْأَوَّلِ . فَإِنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ كَانَ فَاسِدًا فِي أَصْلِهِ : لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ فَاَلَّذِي طَرَدَهُ أَكْثَرُ فَسَادًا وَتَنَاقُضًا مِنْ هَذَا الَّذِي نَقَضَهُ . وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنْ وَافَقَ غَيْرَهُ عَلَى قِيَاسٍ لَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِحَقِّ وَكَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ النُّصُوصِ فِي مَوَاضِعَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقِيَاسَ وَهَذَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ : الِاسْتِحْسَانَ . فَتَجِدُ الْقَائِلِينَ بِالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي تَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ لِنَصِّ خَيْرًا مِنْ الَّذِينَ طَرَدُوا الْقِيَاسَ وَتَرَكُوا النَّصَّ . وَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَأْخُذُوا بِمَقَايِيسِ زُفَرَ فَإِنَّكُمْ إنْ أَخَذْتُمْ بِمَقَايِيسِهِ حَرَّمْتُمْ الْحَلَالَ وَحَلَّلْتُمْ الْحَرَامَ " فَإِنَّ زُفَرَ كَانَ كَثِيرَ الطَّرْدِ لِمَا يَظُنُّهُ مِنْ الْقِيَاسِ مَعَ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِالنُّصُوصِ . وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ نَظَرُهُ بِالْعَكْسِ ; كَانَ أَعْلَمَ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ وَلِهَذَا تُوجَدُ الْمَسَائِلُ الَّتِي يُخَالِفُ فِيهَا زُفَرُ أَصْحَابَهُ عَامَّتُهَا قِيَاسِيَّةً وَلَا يَكُونُ إلَّا قِيَاسًا ضَعِيفًا عِنْدَ التَّأَمُّلِ وَتُوجَدُ الْمَسَائِلُ الَّتِي يُخَالِفُ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ أَبَا حَنِيفَةَ وَاتَّبَعَهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهَا ; عَامَّتُهَا اتَّبَعَ فِيهَا النُّصُوصَ وَالْأَقْيِسَةَ الصَّحِيحَةَ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحَلَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى الْحِجَازِ وَاسْتَفَادَ مِنْ عِلْمِ السُّنَنِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَا لَمْ تَكُنْ مَشْهُورَةً بِالْكُوفَةِ وَكَانَ يَقُولُ : " لَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت " لِعِلْمِهِ بِأَنَّ صَاحِبَهُ مَا كَانَ يَقْصِدُ إلَّا اتِّبَاعَ الشَّرِيعَةِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ عِلْمِ السُّنَنِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ . وَهَذَا أَيْضًا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فِيمَا وَافَقُوا عَلَيْهِ مِنْ قِيَاسٍ لَمْ تَثْبُتْ صِحَّتُهُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُعْتَمَدَةِ فَإِنَّ الْمُوَافَقَةَ فِيهِ تُوجِبُ طَرْدَهُ ثُمَّ أَهْلُ النُّصُوصِ قَدْ يَنْقُضُونَهُ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ النُّصُوصَ يَطْرُدُونَهُ . وَكَذَلِكَ هَذِهِ حَالُ أَكْثَرِ مُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مَعَ مُتَكَلِّمَةِ النفاة ; فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى قِيَاسٍ فِيهِ نَفْيٌ ثُمَّ يَطْرُدُهُ أُولَئِكَ فَيَنْفُونَ بِهِ مَا أَثْبَتَتْهُ النُّصُوصُ وَالْمُثْبِتَةُ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِمُوجَبِ النَّصِّ فَرُبَّمَا قَالُوا بِبَعْضِ مَعْنَاهَا وَرُبَّمَا فَرَّقُوا بِفَرْقِ ضَعِيفٍ . وَأَصْلُ ذَلِكَ : مُوَافَقَةُ أُولَئِكَ عَلَى الْقِيَاسِ الضَّعِيفِ وَذَلِكَ فِي مِثْلِ مَسَائِلِ الْجِسْمِ وَالْجَوْهَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَكَذَا تَجِدُ هَذَا حَالَ مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا فِي الْأَفْعَالِ فَإِنَّ الْأَفْعَالَ لَا تَقَعُ إلَّا عَنْ إرَادَةٍ ; فَالظَّالِمُ يَطْرُدُ إرَادَتَهُ فَيُصِيبُ مَنْ أَعَانَهُ أَوْ يُصِيبُ ظُلْمًا لَا يَخْتَارُهُ هَذَا فَيُرِيدُ الْمُعِينُ أَنْ يَنْقُضَ الطَّرْدَ وَيَخُصَّ عِلَّتَهُ وَلِهَذَا يُقَالُ : مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بُلِيَ بِهِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الظَّلَمَةِ مَنْ أَهْلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ ; وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ . وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ خَبَرٍ أَوْ أَمْرٍ أَوْ عَمَلٍ فَهُوَ ظَالِمٌ . فَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُهُمْ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ مِنْ الْقِسْطِ مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ لِغَيْرِهِ وَأَقْدَرَهُ عَلَى مَا لَمْ يُقْدِرْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَصَارَ يَفْعَلُ وَيَأْمُرُ بِمَا لَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرُهُ وَيَفْعَلُهُ . وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي آدَمَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ قَدْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْقِسْطِ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى فِعْلِهِ بَلْ مَا كَانَ إلَيْهِ أَقْرَبَ وَبِهِ أَشْبَهَ كَانَ أَمْثَلَ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ قَالَ تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ } وَقَالَ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَالَ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } " . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ مَا عِنْدَ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلَمَائِهِمْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْجَزْمِ الْحَقِّ وَالْقَوْلِ الثَّابِتِ وَالْقَطْعِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ أَمْرٌ لَا يُنَازِعُ فِيهِ إلَّا مَنْ سَلَبَهُ اللَّهُ الْعَقْلَ وَالدِّينَ . وَهَبْ أَنَّ الْمُخَالِفَ لَا يُسَلِّمُ ذَلِكَ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ : إنَّهُمْ يَجِدُونَ ذَلِكَ . وَهُوَ وَطَائِفَتُهُ يُخْبِرُونَ بِضِدِّ ذَلِكَ وَلَا يَجِدُونَ عِنْدَهُمْ إلَّا الرَّيْبَ . فَأَيُّ الطَّائِفَتَيْنِ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ كَلَامُهَا [ مَوْصُوفًا ] بِالْحَشْوِ ؟ أَوْ يَكُونَ أَوْلَى بِالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْإِفْكِ وَالْمِحَالِ ؟ . وَكَلَامُ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ نُطِيلَ بِهِ الْخِطَابَ .