تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا ؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ : هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ ؟ .
12345678910111213141516171819202122232425262728293031
فَصْلٌ ثُمَّ قَالَ الْمُعْتَرِضُ : قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْحَنَابِلَةِ : " إنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَيْنًا وَصُورَةً وَيَمِينًا وَشِمَالًا وَوَجْهًا زَائِدًا عَلَى الذَّاتِ وَجَبْهَةً وَصَدْرًا وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ وَأَصَابِعَ وَخِنْصَرًا وَفَخِذًا وَسَاقًا وَقَدَمًا وَجَنْبًا وَحَقْوًا وَخَلْفًا وَأَمَامًا وَصُعُودًا وَنُزُولًا وَهَرْوَلَةً وَعُجْبًا ; لَقَدْ كَمَّلُوا هَيْئَةَ الْبَدَنِ وَقَالُوا : يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَيْسَتْ بِجَوَارِحَ وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَا يُحَدِّثُونَ فَإِنَّهُمْ يُكَابِرُونَ الْعُقُولَ وَكَأَنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ الْأَطْفَالَ " . قُلْت : الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِيهِ أَنْوَاعٌ : - ( الْأَوَّلُ : بَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ التَّعَصُّبِ بِالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ قَبْلَ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعِلْمِيَّةِ . ( الثَّانِي : بَيَانُ أَنَّهُ رَدٌّ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ أَصْلًا . ( الثَّالِثُ : بَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ ضَعْفِ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ . أَمَّا " أَوَّلًا " : فَإِنَّ هَذَا الْمُصَنَّفَ الَّذِي نُقِلَ مِنْهُ كَلَامُ أَبِي الْفَرَجِ لَمْ يُصَنِّفْهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْحَنَابِلَةِ كَمَا ذَكَرَ هَذَا وَإِنَّمَا رَدَّ بِهِ - فِيمَا ادَّعَاهُ - عَلَى بَعْضِهِمْ . وَقَصْدُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَشَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزاغوني وَمَنْ تَبِعَهُمْ ; وَإِلَّا فَجِنْسُ الْحَنَابِلَةِ لَمْ يَتَعَرَّضْ أَبُو الْفَرَجِ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَلَا حَكَى عَنْهُمْ مَا أَنْكَرَهُ ; بَلْ هُوَ يَحْتَجُّ فِي مُخَالَفَتِهِ لِهَؤُلَاءِ بِكَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ كَمَا يَذْكُرُهُ مِنْ كَلَامِ التَّمِيمِيِّينَ . مِثْلَ رِزْقِ اللَّهِ التَّمِيمِيِّ وَأَبِي الوفا بْنِ عَقِيلٍ . وَرِزْقُ اللَّهِ كَانَ يَمِيلُ إلَى طَرِيقَةِ سَلَفِهِ كَجَدِّهِ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَعَمِّهِ أَبِي الْفَضْلِ التَّمِيمِيِّ وَالشَّرِيفِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى هُوَ صَاحِبُ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " لَقَدْ خري الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَلَى الْحَنَابِلَةِ خرية لَا يَغْسِلُهَا الْمَاءُ " وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى هَذَا بِمَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ مُتَحَرِّينَ لِلْكَلَامِ بِعِلْمِ وَعَدْلٍ . وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ : فَمَا زَالَ فِي الْحَنْبَلِيَّةِ مَنْ يَكُونُ مَيْلُهُ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْإِثْبَاتِ الَّذِي يَنْفِيهِ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يُمْسِكُ عَنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ جَمِيعًا . فَفِيهِمْ جِنْسُ التَّنَازُعِ الْمَوْجُودِ فِي سَائِرِ الطَّوَائِفِ لَكِنَّ نِزَاعَهُمْ فِي مَسَائِلِ الدَّقِّ ; وَأَمَّا الْأُصُولُ الْكِبَارُ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا وَلِهَذَا كَانُوا أَقَلَّ الطَّوَائِفِ تَنَازُعًا وَافْتِرَاقًا لِكَثْرَةِ اعْتِصَامِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي بَابِ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ . وَأَقْوَالُهُ مُؤَيَّدَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِ السَّلَفِ الطَّيِّبِ . وَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ مَنْ يَنْتَحِلُ السُّنَّةَ مِنْ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ - فُقَهَائِهَا وَمُتَكَلِّمَتِهَا وَصُوفِيَّتِهَا - يَنْتَحِلُونَهُ . ثُمَّ قَدْ يَتَنَازَعُ هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ . فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْعَالِمِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ وَأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يُلْقِي بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ مُنِعَ ذَلِكَ . فَلَا بُدَّ فِي الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ نَوْعِ تَنَازُعٍ لَكِنْ لَا بُدَّ فِيهِمْ مِنْ طَائِفَةٍ تَعْتَصِمُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَنَازُعٌ وَاخْتِلَافٌ لَكِنَّهُ لَا يَزَالُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْحَقِّ لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا وَلَا مَنْ خَذَلَهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ مُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : كَانَ مُنْتَحِلًا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ ذَاكِرًا أَنَّهُ مُقْتَدٍ بِهِ مُتَّبِعٌ سَبِيلَهُ . وَكَانَ بَيْنَ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُؤَالَفَةِ لِكَثِيرِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ حَتَّى إنَّ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ الْعَزِيزِ يَذْكُرُ مِنْ حُجَجِ أَبِي الْحَسَنِ فِي كَلَامِهِ مِثْلَ مَا يُذْكَرُ مِنْ حُجَجِ أَصْحَابِهِ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ أَصْحَابِهِ . وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَائِلِينَ إلَيْهِمْ التَّمِيمِيُّونَ : أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ وَابْنُهُ وَابْنُ ابْنِهِ وَنَحْوُهُمْ ; وَكَانَ بَيْنَ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَبَيْنَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بْنِ الباقلاني مِنْ الْمَوَدَّةِ وَالصُّحْبَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ . وَلِهَذَا اعْتَمَدَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ البيهقي فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - لَمَّا ذَكَرَ اعْتِقَادَهُ - اعْتَمَدَ عَلَى مَا نَقَلَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْفَضْلِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ . وَلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ مُصَنَّفٌ ذَكَرَ فِيهِ مِنْ اعْتِقَادِ أَحْمَدَ مَا فَهِمَهُ ; وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَلْفَاظَهُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ جُمَلَ الِاعْتِقَادِ بِلَفْظِ نَفْسِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ : " وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ . وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُصَنِّفُ كِتَابًا فِي الْفِقْهِ عَلَى رَأْيِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَيَذْكُرُ مَذْهَبَهُ بِحَسَبِ مَا فَهِمَهُ وَرَآهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ بِمَذْهَبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ أَعْلَمَ مِنْهُ بِأَلْفَاظِهِ وَأَفْهَمَ لِمَقَاصِدِهِ ; فَإِنَّ النَّاسَ فِي نَقْلِ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ قَدْ يَكُونُونَ بِمَنْزِلَتِهِمْ فِي نَقْلِ الشَّرِيعَةِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ : حُكْمُ اللَّهِ كَذَا أَوْ حُكْمُ الشَّرِيعَةِ كَذَا بِحَسَبِ مَا اعْتَقَدَهُ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ ; بِحَسَبِ مَا بَلَغَهُ وَفَهِمَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَعْلَمَ بِأَقْوَالِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ وَأَعْمَالِهِ وَأَفْهَمَ لِمُرَادِهِ . فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْثُرُ وُجُودُهَا فِي بَنِي آدَمَ . وَلِهَذَا قَدْ تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي النَّقْلِ عَنْ الْأَئِمَّةِ كَمَا يَخْتَلِفُ بَعْضُ [ أَهْلِ ] الْحَدِيثِ فِي النَّقْلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ خَبَرَانِ مُتَنَاقِضَانِ فِي الْحَقِيقَةِ . وَلَا أَمْرَانِ مُتَنَاقِضَانِ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا وَأَحَدُهُمَا نَاسِخٌ وَالْآخَرُ مَنْسُوخٌ . وَأَمَّا غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ بِمَعْصُومِ . فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ خَبَرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ . وَأَمْرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِالتَّنَاقُضِ . لَكِنْ إذَا كَانَ فِي الْمَنْقُولِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْتَاجُ إلَى تَمْيِيزٍ وَمَعْرِفَةٍ - وَقَدْ تَخْتَلِفُ الرِّوَايَاتُ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهَا أَرْجَحَ مِنْ بَعْضٍ وَالنَّاقِلُونَ لِشَرِيعَتِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ - لَمْ يُسْتَنْكَرْ وُقُوعُ نَحْوٍ مِنْ هَذَا فِي غَيْرِهِ ; بَلْ هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ . لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ ضَمِنَ حِفْظَ الذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَلَمْ يَضْمَنْ حِفْظَ مَا يُؤْثَرُ عَنْ غَيْرِهِ . لِأَنَّ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ هُوَ هُدَى اللَّهِ الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِهِ يُعْرَفُ سَبِيلُهُ وَهُوَ حُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ ; فَلَوْ وَقَعَ فِيهِ ضَلَالٌ لَمْ يُبَيَّنْ لَسَقَطَتْ حُجَّةُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَذَهَبَ هُدَاهُ وَعَمِيَتْ سَبِيلُهُ ; إذْ لَيْسَ بَعْدَ هَذَا النَّبِيِّ نَبِيٌّ آخَرُ يُنْتَظَرُ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ; بَلْ هَذَا الرَّسُولُ آخِرُ الرُّسُلِ . وَأُمَّتُهُ خَيْرُ الْأُمَمِ . وَلِهَذَا لَا يَزَالُ فِيهَا طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ عَلَى الْحَقِّ بِإِذْنِ اللَّهِ . لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا وَلَا مَنْ خَذَلَهَا . حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ . الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ أَبَا الْفَرَجِ نَفْسَهُ مُتَنَاقِضٌ فِي هَذَا الْبَابِ : لَمْ يَثْبُتْ عَلَى قَدَمِ النَّفْيِ وَلَا عَلَى قَدَمِ الْإِثْبَاتِ ; بَلْ لَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْإِثْبَاتِ نَظْمًا وَنَثْرًا مَا أَثْبَتَ بِهِ كَثِيرًا مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي أَنْكَرَهَا فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ . فَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّاسِ يُثْبِتُونَ تَارَةً وَيَنْفُونَ أُخْرَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ كَمَا هُوَ حَالُ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ بَابَ الْإِثْبَاتِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْحَنْبَلِيَّةِ وَلَا فِيهِمْ مِنْ الْغُلُوِّ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِمْ ; بَلْ مَنْ اسْتَقْرَأَ مَذَاهِبَ النَّاسِ وَجَدَ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ الْغُلَاةِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْحَنْبَلِيَّةِ وَوَجَدَ مَنْ مَالَ مِنْهُمْ إلَى نَفْيٍ بَاطِلٍ أَوْ إثْبَاتٍ بَاطِلٍ فَإِنَّهُ لَا يُسْرِفُ إسْرَافَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَائِلِينَ إلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ; بَلْ تَجِدُ فِي الطَّوَائِفِ مِنْ زِيَادَةِ النَّفْيِ الْبَاطِلِ وَالْإِثْبَاتِ الْبَاطِلِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْحَنْبَلِيَّةِ . وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاعْتِدَاءُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِيهِمْ مِمَّا دَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا حُدُودَ اللَّهِ بِزِيَادَةِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إذْ أَصْلُ السُّنَّةِ مَبْنَاهَا عَلَى الِاقْتِصَادِ وَالِاعْتِدَالِ دُونَ الْبَغْيِ وَالِاعْتِدَاءِ . وَكَانَ عِلْمُ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَتْبَاعِهِ " لَهُ مِنْ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مِمَّنْ لَهُ بِالسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا نَوْعُ إلْمَامٍ وَأَمَّا أَهْلُ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ : الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ صَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَبَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمَكْذُوبَةِ وَالْآرَاءِ الْمُضْطَرِبَةِ : فَأُولَئِكَ جَاهِلُونَ قَدْرَ الرَّسُولِ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ نَطَقَ بِفَضْلِهِمْ الْقُرْآنُ فَهُمْ بِمَقَادِيرِ الْأَئِمَّةِ الْمُخَالِفِينَ لِهَؤُلَاءِ أَوْلَى أَنْ يَكُونُوا جَاهِلِينَ إذْ كَانُوا أَشْبَهَ بِمَنْ شَاقَّ الرَّسُولَ وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ : تَجِدُ أَحَدَهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي " أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ " بِكَلَامِ مَنْ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْشَأْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا سَمِعَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَلَا عَرَفَ حَالَ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَا أُوتُوهُ مِنْ كَمَالِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَا عَرَفَ مِمَّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مَا يَدُلُّهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ . وَتَجِدُ وَقِيعَةَ هَؤُلَاءِ فِي " أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَهُدَاةِ الْأُمَّةِ " مِنْ جِنْسِ وَقِيعَةِ الرَّافِضَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ; وَأَعْيَانِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ; وَوَقِيعَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ مُنَافِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقِيعَةَ الصَّابِئَةِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِ ; وَبَيِّنَةٌ لِلْمُسْتَبْصِرِ ; وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَهَوِّكِ الْمُتَحَيِّرِ . وَتَجِدُ عَامَّةَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ جَادَّةِ السَّلَفِ - إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ - يُعَظِّمُونَ أَئِمَّةَ الِاتِّحَادِ بَعْدَ تَصْرِيحِهِمْ فِي كُتُبِهِمْ بِعِبَارَاتِ الِاتِّحَادِ وَيَتَكَلَّفُونَ لَهَا مَحَامِلَ غَيْرَ مَا قَصَدُوهُ . وَلَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالشَّهَادَةِ بِالْإِمَامَةِ وَالْوِلَايَةِ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقَائِقِ : مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ . هَذَا ابْنُ عَرَبِيٍّ يُصَرِّحُ فِي فُصُوصِهِ : أَنَّ الْوِلَايَةَ أَعْظَمُ مِنْ النُّبُوَّةِ ; بَلْ أَكْمَلُ مِنْ الرِّسَالَةِ وَمِنْ كَلَامِهِ : مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيِّ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ وِلَايَةَ النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ نُبُوَّتِهِ وَكَذَلِكَ وِلَايَةُ الرَّسُولِ أَفْضَلُ مِنْ رِسَالَتِهِ أَوْ يَجْعَلُونَ وِلَايَتَهُ حَالَهُ مَعَ اللَّهِ وَرِسَالَتَهُ حَالَهُ مَعَ الْخَلْقِ وَهَذَا مِنْ بَلِيغِ الْجَهْلِ . فَإِنَّ الرَّسُولَ إذَا خَاطَبَ الْخَلْقَ وَبَلَّغَهُمْ الرِّسَالَةَ لَمْ يُفَارِقْ الْوِلَايَةَ بَلْ هُوَ وَلِيُّ اللَّهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَمَا هُوَ وَلِيُّ اللَّهِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ فَإِنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ لَيْسَ عَدُوًّا لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ . وَلَيْسَ حَالُهُ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ دُونَ حَالِهِ إذَا صَلَّى وَدَعَا اللَّهَ وَنَاجَاهُ . وَأَيْضًا : فَمَا يَقُولُ هَذَا الْمُتَكَلِّفُ فِي قَوْلِ هَذَا الْمُعَظِّمِ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَهُوَ لَبِنَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَيَزْعُمُ أَنَّ لَبِنَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ وَلَبِنَتَاهُ : الذَّهَبُ عِلْمُ الْبَاطِنِ وَالْفِضَّةُ عِلْمُ الظَّاهِرِ وَأَنَّهُ يَتَلَقَّى ذَلِكَ بِلَا وَاسِطَةٍ ; وَيُصَرِّحُ فِي فُصُوصِهِ . أَنَّ رُتْبَةَ الْوِلَايَةِ أَعْظَمُ مِنْ رُتْبَةِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَالنَّبِيَّ بِوَاسِطَةِ فَالْفَضِيلَةُ الَّتِي زَعَمَ أَنَّهُ امْتَازَ بِهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ عِنْدِهِ مِمَّا شَارَكَهُ فِيهِ . وَبِالْجُمْلَةِ : فَهُوَ لَمْ يَتْبَعْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِزَعْمِهِ عَنْ اللَّهِ مَا هُوَ مُتَابِعُهُ فِيهِ فِي الظَّاهِرِ كَمَا يُوَافِقُ الْمُجْتَهِدُ الْمُجْتَهِدَ وَالرَّسُولُ الرَّسُولَ فَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَالتَّلَقِّي عَنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا لَا فِي الْحَقَائِقِ الْخَبَرِيَّةِ وَلَا فِي الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ كَمُوسَى مَعَ عِيسَى وَكَالْعَالِمِ مَعَ الْعَالِمِ فِي الشَّرْعِ الَّذِي وَافَقَهُ فِيهِ بَلْ ادَّعَى أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا أَقَرَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرْعِ مِنْ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ فَيَكُونُ أَخْذُهُ لِلشَّرْعِ عَنْ اللَّهِ أَعْظَمَ مِنْ أَخْذِ الرَّسُولِ . وَأَمَّا مَا ادَّعَى امْتِيَازَهُ بِهِ عَنْهُ وَافْتِقَارَ الرَّسُولِ إلَيْهِ - وَهُوَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ الذَّهَبِيَّةِ - فَزَعَمَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ عَنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحَى بِهِ إلَى الرَّسُولِ . فَهَذَا كَمَا تَرَى فِي حَالِ هَذَا الرَّجُلِ وَتَعْظِيمِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَهُ . وَصَرَّحَ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّ قَتْلَ مَنْ ادَّعَى أَنَّ رُتْبَةَ الْوِلَايَةِ أَعْلَى مِنْ رُتْبَةِ النُّبُوَّةِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ قَتْلِ مِائَةِ كَافِرٍ لِأَنَّ ضَرَرَ هَذَا فِي الدِّينِ أَعْظَمُ . وَلَا نُطِيلُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا . وَأَيْضًا فَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ صِفَاتِهِ عِنْدَهُمْ شَرْعِيَّةٌ سَمْعِيَّةٌ لَا تُطْلَقُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَهُمْ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ مِمَّنْ امْتَنَعَ مِنْ تَسْمِيَةِ صِفَاتِهِ أَعْرَاضًا . وَذَلِكَ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي لَنَا : مِنْهَا مَا هُوَ عَرَضٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَمِنْهَا مَا هُوَ جِسْمٌ وَجَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَتَسْمِيَةُ هَذِهِ جَوَارِحَ وَأَعْضَاءَ أَخَصُّ مِنْ تَسْمِيَتِهَا أَجْسَامًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الِاكْتِسَابِ وَالِانْتِفَاعِ وَالتَّصَرُّفِ وَجَوَازِ التَّفْرِيقِ وَالْبَعْضِيَّةِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ لَا يَخْتَصُّ بِهَؤُلَاءِ بَلْ إثْبَاتُ جِنْسِ هَذِهِ الصِّفَاتِ قَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الكلابية والكرامية وَالْأَشْعَرِيَّةِ كُلُّ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ صِفَةَ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالَ : إنَّهُ بِهِ يَقُولُ . فَقَالَ فِي ( جُمْلَةِ مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ : " جُمْلَةُ مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ : الْإِقْرَارُ بِكَذَا وَكَذَا وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ اسْتَوَى وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ : { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَكَمَا قَالَ : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ جَمِيعَ أَئِمَّةِ الطَّوَائِفِ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ وَغَيْرُهُ مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَنْبَلِيَّةِ - سَوَاءٌ كَانَ الصَّوَابُ فِيهِ مَعَ الْمُثْبِتِ أَوْ مَعَ النَّافِي أَوْ كَانَ فِيهِ تَفْصِيلٌ - إلَّا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ ; بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الطَّوَائِفِ الَّتِي لَا تَنْتَحِلُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ وَالْحَدِيثَ وَلَا مَذْهَبَ السَّلَفِ مِثْلِ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ فَفِيهِمْ فِي طَرَفَيْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَا لَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الطَّوَائِفِ . وَكَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ - أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ - تُوجَدُ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْمُتَقَابِلَةُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَكَذَلِكَ الصَّابِئَةُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ لَهُمْ تَقَابُلٌ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ مَا لَا يُثْبِتُهُ كَثِيرٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية وَلَكِنْ جِنْسُ الْإِثْبَاتِ عَلَى الْمُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ أَغْلَبُ : مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئَةِ الْمُهْتَدِينَ وَجِنْسُ النَّفْيِ عَلَى غَيْرِ الْمُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ أَغْلَبُ : مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئَةِ الْمُبْتَدِعَةِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بِأَلْفَاظِهَا وَأَلْفَاظِ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ : بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِأَحَدِ مِنْ الطَّوَائِفِ اخْتِصَاصٌ بِالْإِثْبَاتِ . وَمِنْ ذَلِكَ : مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْحَرَمَيْنِ : أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الكرجي فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْفُحُولِ إلْزَامًا لِذَوِي الْبِدَعِ وَالْفُضُولِ " وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ - ذَكَرَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ - صَاحِبِ الصَّحِيحِ - وَسُفْيَانِ بْنِ عيينة وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ والأوزاعي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه فِي أُصُولِ السُّنَّةِ مَا يُعْرَفُ بِهِ اعْتِقَادُهُمْ . وَذَكَرَ فِي تَرَاجُمِهِمْ مَا فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ وَمَكَانَتِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَذَكَرَ " أَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ - دُونَ غَيْرِهِمْ - لِأَنَّهُمْ هُمْ الْمُقْتَدَى بِهِمْ وَالْمَرْجُوعُ شَرْقًا وَغَرْبًا إلَى مَذَاهِبِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ أَجْمَعُ لِشَرَائِطِ الْقُدْوَةِ وَالْإِمَامَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَكْثَرُ لِتَحْصِيلِ أَسْبَابِهَا وَأَدَوَاتِهَا : مِنْ جَوْدَةِ الْحِفْظِ وَالْبَصِيرَةِ وَالْفِطْنَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالسَّنَدِ وَالرِّجَالِ وَالْأَحْوَالِ وَلُغَاتِ الْعَرَبِ وَمَوَاضِعِهَا وَالتَّارِيخِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَالصَّحِيحِ وَالْمَدْخُولِ فِي الصِّدْقِ وَالصَّلَابَةِ وَظُهُورِ الْأَمَانَةِ وَالدِّيَانَةِ : مِمَّنْ سِوَاهُمْ " . قَالَ : " وَإِنْ قَصَّرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي سَبَبٍ مِنْهَا جَبَرَ تَقْصِيرَهُ قُرْبُ عَصْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ بَايَنُوا هَؤُلَاءِ بِهَذَا الْمَعْنَى مَنْ سِوَاهُمْ فَإِنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ - وَإِنْ كَانُوا فِي مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ - لَكِنْ أَخَلُّوا بِبَعْضِ مَا أَشَرْت إلَيْهِ مُجْمَلًا مِنْ شَرَائِطِهَا إذْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعًا لِبَيَانِهَا " . قَالَ : " وَوَجْهٌ ثَالِثٌ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ نُبَيِّنَ فِيهِ فَنَقُولَ : إنَّ فِي النَّقْلِ عَنْ هَؤُلَاءِ إلْزَامًا لِلْحُجَّةِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ إمَامٍ يُخَالِفُهُ فِي الْعَقِيدَةِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لَا مَحَالَةَ يُضَلِّلُ صَاحِبَهُ أَوْ يُبَدِّعُهُ أَوْ يُكَفِّرُهُ فَانْتِحَالُ مَذْهَبِهِ - مَعَ مُخَالَفَتِهِ لَهُ فِي الْعَقِيدَةِ - مُسْتَنْكَرٌ وَاَللَّهِ شَرْعًا وَطَبْعًا فَمَنْ قَالَ : أَنَا شَافِعِيُّ الشَّرْعِ أَشْعَرِيُّ الِاعْتِقَادِ قُلْنَا لَهُ : هَذَا مِنْ الْأَضْدَادِ لَا بَلْ مِنْ الِارْتِدَادِ إذْ لَمْ يَكُنْ الشَّافِعِيُّ أَشْعَرِيَّ الِاعْتِقَادِ . وَمَنْ قَالَ : أَنَا حَنْبَلِيٌّ فِي الْفُرُوعِ مُعْتَزِلِيٌّ فِي الْأُصُولِ قُلْنَا : قَدْ ضَلَلْت إذًا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ فِيمَا تَزْعُمُهُ إذْ لَمْ يَكُنْ أَحْمَدُ مُعْتَزِلِيَّ الدِّينِ وَالِاجْتِهَادِ " . قَالَ : " وَقَدْ اُفْتُتِنَ أَيْضًا خَلْقٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بِمَذَاهِبِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَهَذِهِ وَاَللَّهِ سُبَّةٌ وَعَارٌ وَفَلْتَةٌ تَعُودُ بِالْوَبَالِ وَالنَّكَالِ وَسُوءِ الدَّارِ عَلَى مُنْتَحِلِ مَذَاهِبِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ مَا رَوَيْنَاهُ : مِنْ تَكْفِيرِهِمْ : الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةَ وَالْقَدَرِيَّةَ والواقفية وَتَكْفِيرِهِمْ اللَّفْظِيَّةَ " . وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ إلَى أَنْ قَالَ - : " فَأَمَّا غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ : فَلَمْ يَنْتَحِلْ أَحَدٌ مَذْهَبَهُمْ فَلِذَلِكَ لَمْ نَتَعَرَّضْ لِلنَّقْلِ عَنْهُمْ " . قَالَ : " فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا اقْتَصَرْتُمْ إذًا عَلَى النَّقْلِ عَمَّنْ شَاعَ مَذْهَبُهُ وَانْتَحَلَ اخْتِيَارَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَهُمْ الْأَئِمَّةُ : الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ إذْ لَا نَرَى أَحَدًا يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ الأوزاعي وَاللَّيْثِ وَسَائِرِهِمْ ؟ . - قُلْنَا : لِأَنَّ مَنْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ - سِوَى هَؤُلَاءِ - أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ إذْ كَانُوا قُدْوَةً فِي عَصْرِهِمْ ثُمَّ انْدَرَجَتْ مَذَاهِبُهُمْ الْآخِرَةُ تَحْتَ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ . وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عيينة كَانَ قُدْوَةً وَلَكِنْ لَمْ يُصَنِّفْ فِي الَّذِي كَانَ يَخْتَارُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنَّمَا صَنَّفَ أَصْحَابُهُ وَهُمْ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فَانْدَرَجَ مَذْهَبُهُ تَحْتَ مَذَاهِبِهِمْ . وَأَمَّا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فَلَمْ يَقُمْ أَصْحَابُهُ بِمَذْهَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَمْ يُرْزَقْ الْأَصْحَابُ " إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ يُوَافِقُ قَوْلَ مَالِكٍ أَوْ قَوْلَ الثَّوْرِيِّ لَا يُخْطِئُهُمَا ; فَانْدَرَجَ مَذْهَبُهُ تَحْتَ مَذْهَبِهِمَا . وَأَمَّا الأوزاعي فَلَا نَرَى لَهُ فِي أَعَمِّ الْمَسَائِلِ قَوْلًا إلَّا وَيُوَافِقُ قَوْلَ مَالِكٍ أَوْ قَوْلَ الثَّوْرِيِّ أَوْ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : فَانْدَرَجَ اخْتِيَارُهُ أَيْضًا تَحْتَ اخْتِيَارِ هَؤُلَاءِ . وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُ إسْحَاقَ يَنْدَرِجُ تَحْتَ مَذْهَبِ أَحْمَدَ لِتَوَافُقِهِمَا . قَالَ : " فَإِنْ قِيلَ : فَمِنْ أَيْنَ وَقَعْت عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ فِي انْدِرَاجِ مَذَاهِبِ هَؤُلَاءِ تَحْتَ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ ؟ قُلْت : مِنْ التَّعْلِيقَةِ لِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الإسفرائيني الَّتِي هِيَ دِيوَانُ الشَّرَائِعِ وَأُمُّ الْبَدَائِعِ : فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ وَأُصُولِ الْحُجَجِ الْعِظَامِ ; فِي الْمُخْتَلِفِ وَالْمُؤْتَلِفِ . قَالَ : " وَأَمَّا اخْتِيَارُ أَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَحْكَامِ - مِمَّا قَرَأْته وَسَمِعْته مِنْ مَجْمُوعَيْهِمَا - فَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَحْمَدَ وَمُنْدَرِجٌ تَحْتَهُ وَذَلِكَ مَشْهُورٌ . وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَلَمْ أَرَ لَهُ اخْتِيَارًا وَلَكِنْ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ الْحَافِظَ يَقُولُ : اسْتَنْبَطَ الْبُخَارِيُّ فِي الِاخْتِيَارَاتِ مَسَائِلَ مُوَافِقَةً لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ . فَلِهَذِهِ الْمَعَانِي نَقَلْنَا عَنْ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ إذْ هُمْ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَهُمْ أَهْلِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ لِحِيَازَتِهِمْ شَرَائِطَ الْإِمَامَةِ وَلَيْسَ مَنْ سِوَاهُمْ فِي دَرَجَتِهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَئِمَّةً كُبَرَاءَ قَدْ سَارُوا بِسَيْرِهِمْ .