تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا ؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ : هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ ؟ .
12345678910111213141516171819202122232425262728293031
وَكُلُّ مَنْ اتَّبَعَ كَلَامًا أَوْ حَدِيثًا - مِمَّا يُقَالُ : إنَّهُ يُلْهَمُهُ صَاحِبُهُ وَيُوحَى إلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ يُنْشِئُهُ وَيُحْدِثُهُ مِمَّا يُعَارِضُ بِهِ الْقُرْآنَ - فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الظَّالِمِينَ ظُلْمًا . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَ الَّذِينَ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حَيْثُ أَنْكَرُوا الْإِنْزَالَ عَلَى الْبَشَرِ ذَكَرَ الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِ الْمُدَّعِينَ لِمُمَاثَلَتِهِ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ . فَإِنَّ الْمُمَاثِلَ لَهُ : إمَّا أَنْ يَقُولَ : إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَيَّ أَوْ يَقُولَ : أُوحِيَ إلَيَّ وَأُلْقِيَ إلَيَّ وَقِيلَ لِي وَلَا يُسَمِّي الْقَائِلَ . أَوْ يُضِيفُ ذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ هُوَ الْمُنْشِئُ لَهُ . وَوَجْهُ الْحَصْرِ : أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَحْذِفَ الْفَاعِلَ أَوْ يَذْكُرَهُ وَإِذَا ذَكَرَهُ فَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ أَوْ مِنْ قَوْلِ نَفْسِهِ . فَإِنَّهُ إذَا جَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ الشَّيَاطِينِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَمَا جَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيمَا يُضِيفُهُ إلَى اللَّهِ وَفِيمَا حُذِفَ فَاعِلُهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } . وَتَدَبَّرْ كَيْفَ جَعَلَ الْأَوَّلِينَ فِي حَيِّزِ الَّذِي جَعَلَهُ وَحْيًا مِنْ اللَّهِ وَلَمْ يُسَمِّ الْمُوحِي ؟ فَإِنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي ادِّعَاءِ جِنْسِ الْإِنْبَاءِ وَجَعَلَ الْآخَرَ فِي حَيِّزِ الَّذِي ادَّعَى أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ وَلِهَذَا قَالَ : { مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } فَالْمُفْتَرِي لِلْكَذِبِ وَالْقَائِلُ : أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ : مِنْ جُمْلَةِ الِاسْمِ الْأَوَّلِ وَقَدْ قُرِنَ بِهِ الِاسْمُ الْآخَرُ فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الْمُدَّعُونَ لِشِبْهِ النُّبُوَّةِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَهُمْ الْمُكَذِّبُ لِلنُّبُوَّةِ . فَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ أُصُولِ الْكُفْرِ الَّتِي هِيَ تَكْذِيبُ الرُّسُلِ أَوْ مُضَاهَاتُهُمْ كمسيلمة الْكَذَّابِ وَأَمْثَالِهِ . وَهَذِهِ هِيَ " أُصُولُ الْبِدَعِ " الَّتِي نَرُدُّهَا نَحْنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ لِلسُّنَّةِ يَرُدُّ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يُعَارِضُ قَوْلَ الرَّسُولِ بِمَا يَجْعَلُهُ نَظِيرًا لَهُ : مِنْ رَأْيٍ أَوْ كَشْفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ يُسَمُّونَ هَؤُلَاءِ وَأَئِمَّتَهُمْ حَشْوِيَّةً هُمْ أَحَقُّ بِكُلِّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ يَذْكُرُونَهُ وَأَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِكُلِّ عِلْمٍ نَافِعٍ وَتَحْقِيقٍ وَكَشْفِ حَقَائِقَ وَاخْتِصَاصٍ بِعُلُومِ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهَا هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الْمُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ الْمُكَذِّبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . فَإِنَّ [ نَبْزَهُمْ ] بِالْحَشْوِيَّةِ : إنْ كَانَ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ الْأَحَادِيثَ بِلَا تَمْيِيزٍ ; فَالْمُخَالِفُونَ لَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ قَوْلًا لِحَشْوِ الْآرَاءِ وَالْكَلَامِ الَّذِي لَا تُعْرَفُ صِحَّتُهُ بَلْ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ وَإِنْ كَانَ : لِأَنَّ فِيهِمْ عَامَّةً لَا يُمَيِّزُونَ ; فَمَا مِنْ فِرْقَةٍ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ إلَّا وَمِنْ أَتْبَاعِهَا مَنْ أَجْهَلُ الْخَلْقِ وَأَكْفَرُهُمْ وَعَوَامُّ هَؤُلَاءِ هُمْ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ بِالصَّلَوَاتِ وَأَهْلُ الذِّكْرِ وَالدَّعَوَاتِ وَحُجَّاجُ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَهْلُ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْعَالَمِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِوُجُوهِ الذَّمِّ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ أَبْعَدُ عَنْهَا وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَرْجِعُوا إلَيْهِمْ ; فِيمَا اخْتَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْوِرَاثَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إلَّا عِنْدَهُمْ . وَأَيْضًا فَيَنْبَغِي النَّظَرُ فِي الْمَوْسُومِينَ بِهَذَا الِاسْمِ وَفِي الْوَاسِمِينَ لَهُمْ بِهِ : أَيُّهُمَا أَحَقُّ ؟ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مِمَّا اُشْتُهِرَ عَنْ النفاة مِمَّنْ هُمْ مَظِنَّةُ الزَّنْدَقَةِ كَمَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ - كَأَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ - أَنَّ عَلَامَةَ الزَّنَادِقَةِ تَسْمِيَتُهُمْ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ حَشْوِيَّةً . وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا نِزَاعَ فِيهَا مِثْلُ : لَفْظِ " الْإِثْبَاتِ ; وَالنَّفْيِ " فَنَقُولُ : مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَلْقِيبِ بَعْضِ النَّاسِ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يُقِرُّونَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ . فَكُلُّ مَنْ كَانَ عَنْهُ أَبْعَدَ كَانَ أَعْظَمَ ذَمًّا بِذَلِكَ : كَالْقَرَامِطَةِ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةِ ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ يَذُمُّونَ بِذَلِكَ الْمُتَكَلِّمَةَ الصفاتية مِنْ الكلابية والكرامية وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . فَكُلُّ مَنْ اتَّبَعَ النُّصُوصَ وَأَقَرَّهَا سَمَّوْهُ بِذَلِكَ وَمَنْ قَالَ بِالصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ مِثْلِ : الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ; دُونَ الْخَبَرِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَمَّى مُثْبِتَةَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ حَشْوِيَّةً كَمَا يَفْعَلُ أَبُو الْمَعَالِي الجويني وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَنَحْوُهُمَا . وَلِطَرِيقَةِ أَبِي الْمَعَالِي كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ يَتْبَعُهُ فِي فِقْهِهِ وَكَلَامِهِ لَكِنْ أَبُو مُحَمَّدٍ كَانَ أَعْلَمَ بِالْحَدِيثِ وَأَتْبَعَ لَهُ مِنْ أَبِي الْمَعَالِي وَبِمَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ . وَأَبُو الْمَعَالِي أَكْثَرُ اتِّبَاعًا لِلْكَلَامِ وَهُمَا فِي الْعَرَبِيَّةِ مُتَقَارِبَانِ . وَهَؤُلَاءِ يَعِيبُونَ مُنَازِعَهُمْ إمَّا لِجَمْعِهِ حَشْوَ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ صَحِيحِهِ وَضَعِيفِهِ . أَوْ لِكَوْنِ اتِّبَاعِ الْحَدِيثِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَشْوِ : لِأَنَّهَا مَسَائِلُ عِلْمِيَّةٌ وَالْحَدِيثُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ اتِّبَاعَ النُّصُوصِ مُطْلَقًا فِي الْمَبَاحِثِ الْأُصُولِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ حَشْوٌ ; لِأَنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِذَلِكَ ; فَالْأَمْرُ رَاجِعٌ إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا رَيْبٌ فِي الْإِسْنَادِ أَوْ فِي الْمَتْنِ : إمَّا لِأَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إلَى الرَّسُولِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَالَهُ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَيَجْعَلُونَ مُقْتَضَاهَا الْعِلْمَ وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا فَهِمُوهُ مِنْ اللَّفْظِ مَعْلُومًا وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْلُومِ لِمَا فِي الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ مِنْ الِاحْتِمَالِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا عُمْدَةُ كُلِّ زِنْدِيقٍ وَمُنَافِقٍ يَبْطُلُ الْعِلْمُ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ . تَارَةً يَقُولُ : لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ وَتَارَةً يَقُولُ : لَا نَعْلَمُ مَا أَرَادُوا بِهَذَا الْقَوْلِ . وَمَتَى انْتَفَى الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ أَوْ بِمَعْنَاهُ : لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْ جِهَتِهِمْ عِلْمٌ فَيَتَمَكَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مَا يَقُولُ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَقَدْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُعَارَضَ بِآثَارِ الْأَنْبِيَاءِ ; لِأَنَّهُ قَدْ وَكَّلَ ثَغْرَهَا بِذَيْنِك الدامحين الدَّافِعَيْنِ لِجُنُودِ الرَّسُولِ عَنْهُ الطَّاعِنَيْنِ لِمَنْ احْتَجَّ بِهَا . وَهَذَا الْقَدْرُ بِعَيْنِهِ هُوَ عَيْنُ الطَّعْنِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّةِ ; وَإِنْ كَانَ يُقِرُّ بِتَعْظِيمِهِمْ وَكَمَالِهِمْ : إقْرَارَ مَنْ لَا يَتَلَقَّى مِنْ جِهَتِهِمْ عِلْمًا فَيَكُونُ الرَّسُولُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ خَلِيفَةٍ : يُعْطِي السِّكَّةَ وَالْخُطْبَةَ رَسْمًا وَلَفْظًا كِتَابَةً وَقَوْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مُطَاعٌ . فَلَهُ صُورَةُ الْإِمَامَةِ بِمَا جُعِلَ لَهُ مِنْ السِّكَّةِ وَالْخُطْبَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَتُهَا . وَهَذَا الْقَدْرُ - وَإِنْ اسْتَجَازَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُلُوكِ - لِعَجْزِ بَعْضِ الْخُلَفَاءِ عَنْ الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الْإِمَارَةِ مِنْ الْجِهَادِ وَالسِّيَاسَةِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ نُوَّابِ الْوُلَاةِ لِضَعْفِ مُسْتَنِيبِهِ وَعَجْزِهِ ؟ فَيَتَرَكَّبُ مِنْ تَقَدُّمِ ذِي الْمَنْصِبِ وَالْبَيْتِ وَقُوَّةِ نَائِبِهِ صَلَاحُ الْأَمْرِ أَوْ فِعْلُ ذَلِكَ لِهَوَى وَرَغْبَةٍ فِي الرِّئَاسَةِ وَلِطَائِفَتِهِ دُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ وَسَلَكَ مَسْلَكَ الْمُتَغَلِّبِينَ بِالْعُدْوَانِ - فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يَقُولَ فِي الرِّسَالَةِ : إنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ الْعِلْمِ وَبَيَانِهِ حَتَّى يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِهَا مَعَ تَحْقِيقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مِنْ غَيْرِهَا مُوجِبًا لِصَلَاحِ الدِّينِ وَلَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهَا بِالتَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُقَدِّمُ عِلْمَهُ وَقَوْلَهُ عَلَى عِلْمِ الرَّسُولِ وَقَوْلِهِ وَلَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهَا التَّأْوِيلَاتِ الْعَقْلِيَّةَ وَيَدَّعِيَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ الدِّينِ وَأَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ كَامِلًا إلَّا بِذَلِكَ . وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ : أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الرَّسُولَ [ كَانَ ] عَالِمًا بِأَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ لَهُ تَأْوِيلَاتٌ وَتِبْيَانٌ غَيْرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَمَفْهُومُهُ وَأَنَّهُ مَا تَرَكَ ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ الْبَيَانُ بَيْنَ أُولَئِكَ الْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ وَأَنَّهُ وَكَلَ ذَلِكَ إلَى عُقُولِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْهُمْ . فَإِنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ تَقُولُ : إنَّ الرُّسُلَ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ بَيَانِ الْحَقَائِقِ لِأَنَّ إظْهَارَهَا يُفْسِدُ النَّاسَ وَلَا تَحْتَمِلُ عُقُولُهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ : إنَّهُمْ عَرَفُوهَا . وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ : لَمْ يَعْرِفُوهَا . أَوْ أَنَا أَعْرَفُ بِهَا مِنْهُمْ ثُمَّ يُبَيِّنُونَهَا هُمْ بِالطُّرُقِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَهُمْ . وَلَمْ يَعْقِلُوا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْعِلْمُ بِهَا مُمْكِنًا فَهُوَ مُمْكِنٌ لَهُمْ كَمَا يَدَّعُونَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ لَهُمْ وَإِلَّا فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَتِهَا بِإِقْرَارِهِمْ . وَكَذَلِكَ التَّعْبِيرُ وَبَيَانُ الْعِلْمِ بِالْخِطَابِ وَالْكِتَابِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا فَلَا يُمْكِنُكُمْ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ تَتَكَلَّمُونَ وَتَكْتُبُونَ عِلْمَكُمْ فِي الْكُتُبِ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فَلَا يَصِحُّ قَوْلُكُمْ : " لَمْ يُمْكِنْ الرُّسُلَ ذَلِكَ " . وَإِنْ قُلْتُمْ : يُمْكِنُ الْخِطَابُ بِهَا مَعَ خَاصَّةِ النَّاسِ دُونَ عَامَّتِهِمْ - وَهَذَا قَوْلُهُمْ - فَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ عِلْمَ الرُّسُلِ يَكُونُ عِنْدَ خَاصَّتِهِمْ كَمَا يَكُونُ عِلْمُكُمْ عِنْدَ خَاصَّتِكُمْ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ بِكَلَامِ الْمَتْبُوعِ وَأَحْوَالِهِ وَبَوَاطِنِ أُمُورِهِ وَظَوَاهِرِهَا أَعْلَمُ وَهُوَ بِذَلِكَ أَقْوَمُ : كَانَ أَحَقَّ بِالِاخْتِصَاصِ بِهِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ وَأَخَصُّهَا بِعِلْمِ الرَّسُولِ وَعِلْمِ خَاصَّتِهِ : مِثْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَسَائِرِ الْعَشَرَةِ . وَمِثْلُ : أبي بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وعبادة بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ ; وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ; وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَمِثْلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ; وأسيد بْنِ حضير وَسَعْدِ بْنِ عبادة وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ : مِمَّنْ كَانَ أَخَصَّ النَّاسِ بِالرَّسُولِ وَأَعْلَمَهُمْ بِبَاطِنِ أُمُورِهِ وَأَتْبَعَهُمْ لِذَلِكَ . فَعُلَمَاءُ الْحَدِيثِ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَؤُلَاءِ وَبِبَوَاطِنِ أُمُورِهِمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِذَلِكَ . فَيَكُونُ عِنْدَهُمْ الْعِلْمُ : عِلْمَ خَاصَّةِ الرَّسُولِ وَبِطَانَتِهِ كَمَا أَنَّ خَوَاصَّ الْفَلَاسِفَةِ يَعْلَمُونَ عِلْمَ أَئِمَّتِهِمْ وَخَوَاصُّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَعْلَمُونَ عِلْمَ أَئِمَّتِهِمْ وَخَوَاصُّ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ يَعْلَمُونَ عِلْمَ أَئِمَّتِهِمْ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مِثْلُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ خَاصَّةَ كُلِّ إمَامٍ أَعْلَمُ بِبَاطِنِ أُمُورِهِ مِثْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ : فَإِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ لَمَّا كَانَ أَخَصَّ النَّاسِ بِهِ وَأَعْلَمَهُمْ بِبَطْنِ أَمْرِهِ اعْتَمَدَ أَتْبَاعُهُ عَلَى رِوَايَتِهِ حَتَّى إنَّهُ تُؤْخَذُ عَنْهُ مَسَائِلُ السِّرِّ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ أَبِي الْغَمْرِ وَإِنْ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ : فَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا . وَقَدْ يَكْتُبُ الْعَالِمُ كِتَابًا أَوْ يَقُولُ قَوْلًا فَيَكُونُ بَعْضُ مَنْ لَمْ يُشَافِهْهُ بِهِ أَعْلَمَ بِمَقْصُودِهِ مِنْ بَعْضِ مَنْ شَافَهَهُ بِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ } لَكِنْ بِكُلِّ حَالٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُبَلِّغُ مِنْ الْخَاصَّةِ الْعَالِمِينَ بِحَالِ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ كَمَا يَكُونُ فِي أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مَنْ هُوَ أَفْهَمُ لِنُصُوصِهِمْ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ .