تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا ؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ : هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ ؟ .
12345678910111213141516171819202122232425262728293031
وَمِنْ الْمُسْتَقَرِّ فِي أَذْهَانِ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ وَرَثَةَ الرُّسُلِ وَخُلَفَاءَ الْأَنْبِيَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَامُوا بِالدِّينِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَدَعْوَةً إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَهَؤُلَاءِ أَتْبَاعُ الرَّسُولِ حَقًّا وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِفَةِ الطَّيِّبَةِ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي زَكَتْ فَقَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ فَزَكَتْ فِي نَفْسِهَا وزكى النَّاسُ بِهَا . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ وَالْقُوَّةِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَلِذَلِكَ كَانُوا وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } فَالْأَيْدِي الْقُوَّةُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَالْأَبْصَارُ الْبَصَائِرُ فِي دِينِ اللَّهِ فَبِالْبَصَائِرِ يُدْرَكُ الْحَقُّ وَيُعْرَفُ وَبِالْقُوَّةِ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَبْلِيغِهِ وَتَنْفِيذِهِ وَالدَّعْوَةِ إلَيْهِ . فَهَذِهِ الطَّبَقَةُ كَانَ لَهَا قُوَّةُ الْحِفْظِ وَالْفَهْمِ وَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ وَالْبَصَرِ وَالتَّأْوِيلِ ; فَفَجَّرَتْ مِنْ النُّصُوصِ أَنْهَارَ الْعُلُومِ وَاسْتَنْبَطَتْ مِنْهَا كُنُوزَهَا وَرُزِقَتْ فِيهَا فَهْمًا خَاصًّا كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ سُئِلَ : " هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءِ دُونَ النَّاسِ ؟ فَقَالَ : لَا ; وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ; إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ . فَهَذَا الْفَهْمُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَأِ وَالْعُشْبِ الَّذِي أَنْبَتَتْهُ الْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ . وَهُوَ الَّذِي تَمَيَّزَتْ بِهِ هَذِهِ الطَّبَقَةُ عَنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ ; وَهِيَ الَّتِي حَفِظَتْ النُّصُوصَ فَكَانَ هَمُّهَا حِفْظَهَا وَضَبْطَهَا ; فَوَرَدَهَا النَّاسُ وَتَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ ; وَاسْتَنْبَطُوا مِنْهَا وَاسْتَخْرَجُوا كُنُوزَهَا وَاتَّجَرُوا فِيهَا ; وَبَذَرُوهَا فِي أَرْضٍ قَابِلَةٍ لِلزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ ; وَرَوَوْهَا كُلٌّ بِحَسَبِهِ . { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ } . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ; ثُمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا ; فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وَلَيْسَ بِفَقِيهِ ; وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } . وَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَبْرُ الْأُمَّةِ ; وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ . مِقْدَارُ مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْلُغُ نَحْوَ الْعِشْرِينَ حَدِيثًا الَّذِي يَقُولُ فِيهِ : " سَمِعْت وَرَأَيْت " وَسَمِعَ الْكَثِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَبُورِكَ لَهُ فِي فَهْمِهِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ حَتَّى مَلَأَ الدُّنْيَا عِلْمًا وَفِقْهًا قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ : وَجُمِعَتْ فَتْوَاهُ فِي سَبْعَةِ أَسْفَارٍ كِبَارٍ وَهِيَ بِحَسَبِ مَا بَلَغَ جَامِعُهَا وَإِلَّا فَعِلْمُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْبَحْرِ وَفِقْهُهُ وَاسْتِنْبَاطُهُ وَفَهْمُهُ فِي الْقُرْآنِ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي فَاقَ بِهِ النَّاسَ وَقَدْ سَمِعُوا مَا سَمِعَ وَحَفِظُوا الْقُرْآنَ كَمَا حَفِظَهُ وَلَكِنَّ أَرْضَهُ كَانَتْ مَنْ أَطْيَبِ الْأَرَاضِي وَأَقْبَلِهَا لِلزَّرْعِ فَبَذَرَ فِيهَا النُّصُوصَ فَأَنْبَتَتْ مَنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ . وَأَيْنَ تَقَعُ فَتَاوَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَفْسِيرُهُ وَاسْتِنْبَاطُهُ مِنْ فَتَاوَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَفْسِيرِهِ ؟ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مِنْهُ ; بَلْ هُوَ حَافِظُ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ : يُؤَدِّي الْحَدِيثَ كَمَا سَمِعَهُ وَيَدْرُسُهُ بِاللَّيْلِ دَرْسًا ; فَكَانَتْ هِمَّتُهُ مَصْرُوفَةً إلَى الْحِفْظِ وَتَبْلِيغِ مَا حَفِظَهُ كَمَا سَمِعَهُ وَهِمَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ : مَصْرُوفَةٌ إلَى التَّفَقُّهِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَتَفْجِيرِ النُّصُوصِ وَشَقِّ الْأَنْهَارِ مِنْهَا وَاسْتِخْرَاجِ كُنُوزِهَا . وَهَكَذَا وَرَثَتُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ : اعْتَمَدُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى اسْتِنْبَاطِ النُّصُوصِ لَا عَلَى خَيَالٍ فَلْسَفِيٍّ وَلَا رَأْيٍ قِيَاسِيٍّ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَاتِ . لَا جَرَمَ كَانَتْ الدَّائِرَةُ وَالثَّنَاءُ الصِّدْقُ وَالْجَزَاءُ الْعَاجِلُ وَالْآجِلُ : لِوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ التَّابِعِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَإِنَّ الْمَرْءَ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } . وَبِكُلِّ حَالٍ : فَهُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِحَدِيثِ الرَّسُولِ وَسِيرَتِهِ وَمَقَاصِدِهِ وَأَحْوَالِهِ . وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِأَهْلِ الْحَدِيثِ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى سَمَاعِهِ أَوْ كِتَابَتِهِ أَوْ رِوَايَتِهِ بَلْ نَعْنِي بِهِمْ : كُلَّ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِحِفْظِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَفَهْمِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَاتِّبَاعِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْقُرْآنِ . وَأَدْنَى خَصْلَةٍ فِي هَؤُلَاءِ : مَحَبَّةُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْبَحْثِ عَنْهُمَا وَعَنْ مَعَانِيهِمَا وَالْعَمَلِ بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ مُوجِبِهِمَا . فَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ أَخْبَرُ بِالرَّسُولِ مِنْ فُقَهَاءِ غَيْرِهِمْ وَصُوفِيَّتُهُمْ أَتَبَعُ لِلرَّسُولِ مِنْ صُوفِيَّةِ غَيْرِهِمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ أَحَقُّ بِالسِّيَاسَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَعَامَّتُهُمْ أَحَقُّ بِمُوَالَاةِ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِهِمْ .