تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا ؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ : هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ ؟ .
12345678910111213141516171819202122232425262728293031
وَأَمَّا مُتَكَلِّمَةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنْ الكلابية والكرامية وَالْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وِ أَهْلِ الْحَدِيثِ : فَهَؤُلَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَطْعَنُونَ فِي السَّلَفِ ; بَلْ قَدْ يُوَافِقُونَهُمْ فِي أَكْثَرِ جُمَلِ مَقَالَاتِهِمْ لَكِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ بِالْحَدِيثِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَعْلَمَ كَانَ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ أَعْلَمَ وَلَهُ أَتْبَعَ . وَإِنَّمَا يُوجَدُ تَعْظِيمُ السَّلَفِ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ بِقَدْرِ اسْتِنَانِهَا وَقِلَّةِ ابْتِدَاعِهَا . أَمَّا أَنْ يَكُونَ انْتِحَالُ السَّلَفِ مِنْ شَعَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ : فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا . فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا حَيْثُ يَكْثُرُ الْجَهْلُ وَيَقِلُّ الْعِلْمُ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي مُحَمَّدٍ مِنْ أَتْبَاعِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ يُصَرِّحُونَ بِمُخَالَفَةِ السَّلَفِ - فِي مِثْلِ مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ . وَمَسْأَلَةِ تَأْوِيلِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ - يَقُولُونَ : " مَذْهَبُ السَّلَفِ : أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : فَمَذْهَبُهُمْ كَيْتُ وَكَيْتُ " وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ : " مَذْهَبُ السَّلَفِ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الصِّفَاتِ لَا تَتَأَوَّلُ . والمتكلمون يُرِيدُونَ تَأْوِيلَهَا إمَّا وُجُوبًا وَإِمَّا جَوَازًا " وَيَذْكُرُونَ الْخِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِمْ الْمُتَكَلِّمِينَ . هَذَا مَنْطُوقُ أَلْسِنَتِهِمْ وَمَسْطُورُ كُتُبِهِمْ . أَفَلَا عَاقِلٌ يَعْتَبِرُ ؟ وَمَغْرُورٌ يَزْدَجِرُ ؟ : إنَّ السَّلَفَ ثَبَتَ عَنْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى بِتَصْرِيحِ الْمُخَالِفِ ثُمَّ يَحْدُثُ مَقَالَةٌ تَخْرُجُ عَنْهُمْ . أَلَيْسَ هَذَا صَرِيحًا : إنَّ السَّلَفَ كَانُوا ضَالِّينَ عَنْ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَعَلِمَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَهَذَا فَاسِدٌ بِضَرُورَةِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالدِّينِ الْمَتِينِ . وَأَيْضًا فَقَدْ يَنْصُرُ الْمُتَكَلِّمُونَ أَقْوَالَ السَّلَفِ تَارَةً وَأَقْوَالَ الْمُتَكَلِّمِينَ تَارَةً كَمَا يَفْعَلُهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِثْلُ أَبِي الْمَعَالِي الجويني وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ والرازي وَغَيْرِهِمْ . وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ الَّذِي يَنْصُرُونَهُ تَارَةً أَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ . فَلَا يَثْبُتُونَ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَتَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الشُّكُوكُ . وَهَذَا عَادَةُ اللَّهِ فِيمَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَتَارَةً يَجْعَلُونَ إخْوَانَهُمْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَحْذَقَ وَأَعْلَمَ مِنْ السَّلَفِ وَيَقُولُونَ : " طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمُ وَطَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ " فَيَصِفُونَ إخْوَانَهُمْ بِالْفَضِيلَةِ فِي الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ وَالسَّلَفَ بِالنَّقْصِ فِي ذَلِكَ وَالتَّقْصِيرِ فِيهِ أَوْ الْخَطَأِ وَالْجَهْلِ . وَغَايَتُهُمْ عِنْدَهُمْ : أَنْ يُقِيمُوا أَعْذَارَهُمْ فِي التَّقْصِيرِ وَالتَّفْرِيطِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا شُعْبَةٌ مِنْ الرَّفْضِ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَكْفِيرًا لِلسَّلَفِ - كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ - وَلَا تَفْسِيقًا لَهُمْ - كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ - كَانَ تَجْهِيلًا لَهُمْ وَتَخْطِئَةً وَتَضْلِيلًا وَنِسْبَةً لَهُمْ إلَى الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِسْقًا فَزَعْمًا : أَنَّ أَهْلَ الْقُرُونِ المفضولة فِي الشَّرِيعَةِ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ : أَنَّ خَيْرَ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ - فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالِاعْتِقَادِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ فَضِيلَةٍ أَنَّ خَيْرَهَا - : الْقَرْنُ الْأَوَّلُ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْخَلَفِ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ : مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَإِيمَانٍ وَعَقْلٍ وَدِينٍ وَبَيَانٍ وَعِبَادَةٍ وَأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْبَيَانِ لِكُلِّ مُشْكِلٍ . هَذَا لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مَنْ كَابَرَ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ; كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ . فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ : أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ " وَقَالَ غَيْرُهُ : " عَلَيْكُمْ بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ فَإِنَّهُمْ جَاءُوا بِمَا يَكْفِي وَمَا يَشْفِي وَلَمْ يَحْدُثْ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ كَامِنٌ لَمْ يَعْلَمُوهُ " . هَذَا وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَأْتِي زَمَانٌ إلَّا وَاَلَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ } فَكَيْفَ يَحْدُثُ لَنَا زَمَانٌ فِيهِ الْخَيْرُ فِي أَعْظَمِ الْمَعْلُومَاتِ وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى ؟ هَذَا لَا يَكُونُ أَبَدًا . وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِسَالَتِهِ : " هُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَعَقْلٍ وَدِينٍ وَفَضْلٍ وَكُلِّ سَبَبٍ يُنَالُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ يُدْرَكُ بِهِ هُدًى وَرَأْيُهُمْ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا " وَأَيْضًا فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الجهمية الكلابية - كَصَاحِبِ هَذَا الْكَلَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأَمْثَالِهِ - كَيْفَ تَدَعُونَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ وَغَايَةُ مَا عِنْدَ السَّلَفِ : أَنْ يَكُونُوا مُوَافِقِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَإِنَّ عَامَّةَ مَا عِنْدَ السَّلَفِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ : هُوَ مَا اسْتَفَادُوهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَهَدَاهُمْ بِهِ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } . وَأَبُو مُحَمَّدٍ وَأَمْثَالُهُ قَدْ سَلَكُوا مَسْلَكَ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنْ الْحَقَّ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ وَلَا بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ بَلْ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ خِلَافَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ : إمَّا كَتَمَهُ وَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْمُخَالِفِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فِي الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ كَالتَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّسُولَ أَحْكَمَ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَخْلَاقِ وَالسِّيَاسَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَأَتَى بِشَرِيعَةِ عَمَلِيَّةٍ هِيَ أَفْضَلُ شَرَائِعِ الْعَالَمِ وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْرَعْ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَفْضَلُ مِنْ نَامُوسِهِ وَلَا أَكْمَلُ مِنْهُ . فَإِنَّهُمْ رَأَوْا حُسْنَ سِيَاسَتِهِ لِلْعَالَمِ وَمَا أَقَامَهُ مِنْ سُنَنِ الْعَدْلِ وَمَحَاهُ مِنْ الظُّلْمِ . وَأَمَّا الْأُمُورُ الْعِلْمِيَّةُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا - مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَسْمَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ - فَلَمَّا رَأَوْهَا تُخَالِفُ مَا هُمْ عَلَيْهِ صَارُوا فِي الرَّسُولِ فَرِيقَيْنِ . فَغُلَاتُهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ هَذِهِ الْمَعَارِفَ ; وَإِنَّمَا كَانَ كَمَالِهِ فِي الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ . الْعِبَادَاتُ وَالْأَخْلَاقُ . وَأَمَّا الْأُمُورُ الْعِلْمِيَّةُ : فَالْفَلَاسِفَةُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُ ; بَلْ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ عَلِيًّا كَانَ فَيْلَسُوفًا وَأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ بِالْعِلْمِيَّاتِ مِنْ الرَّسُولِ وَأَنَّ هَارُونَ كَانَ فَيْلَسُوفًا وَكَانَ أَعْلَمَ بِالْعِلْمِيَّاتِ مِنْ مُوسَى . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُعَظِّمُ فِرْعَوْنَ وَيُسَمُّونَهُ أَفْلَاطُونَ الْقِبْطِيَّ وَيَدَّعُونَ أَنَّ صَاحِبَ مَدْيَنَ الَّذِي تَزَوَّجَ مُوسَى ابْنَتَهُ - الَّذِي يَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ إنَّهُ شُعَيْبٌ - يَقُولُ هَؤُلَاءِ : إنَّهُ أَفْلَاطُونُ أُسْتَاذُ أَرِسْطُو وَيَقُولُونَ : إنَّ أَرِسْطُو هُوَ الْخَضِرُ - إلَى أَمْثَالِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا ذُو الْجَلَالِ . أَقَلُّ مَا فِيهِ جَهْلُهُمْ بِتَوَارِيخِ الْأَنْبِيَاءِ . فَإِنَّ أَرِسْطُو بِاتِّفَاقِهِمْ كَانَ وَزِيرًا لِلْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فيلبس الْمَقْدُونِيِّ الَّذِي تُؤَرِّخُ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى التَّارِيخَ الرُّومِيَّ . وَكَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ . وَقَدْ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ " ذُو الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ وَأَنَّ أَرِسْطُو كَانَ وَزِيرًا لِذِي الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ وَهَذَا جَهْلٌ . فَإِنَّ هَذَا الْإِسْكَنْدَرَ بْنَ فيلبس لَمْ يَصِلْ إلَى بِلَادِ التُّرْكِ وَلَمْ يَبْنِ السَّدَّ وَإِنَّمَا وَصَلَ إلَى بِلَادِ الْفُرْسِ . وَذُو الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ وَصَلَ إلَى شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا وَكَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى هَذَا يُقَالُ : إنَّ اسْمَهُ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ دَارَا وَكَانَ مُوَحِّدًا مُؤْمِنًا ; وَذَاكَ مُشْرِكًا : كَانَ يَعْبُدُ هُوَ وَقَوْمُهُ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَيُعَانُونَ السِّحْرَ كَمَا كَانَ أَرِسْطُو وَقَوْمُهُ مِنْ الْيُونَانِ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيُعَانُونَ السِّحْرَ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ وَأَخْبَارُهُمْ مَشْهُورَةٌ وَآثَارُهُمْ ظَاهِرَةٌ بِذَلِكَ . فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : بَيَانُ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ الْبَاطِنِيَّةُ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَ ( الْفَرِيقُ الثَّانِي مِنْهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَعْلَمُ الْحَقَّ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَيَعْرِفُ أَنَّ الرَّبَّ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ وَأَنَّهُ لَا يَرَى وَلَا يَتَكَلَّمُ وَأَنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ وَأَنَّ الْأَبْدَانَ لَا تَقُومُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ مَلَائِكَةٌ هُمْ أَحْيَاءٌ نَاطِقُونَ يَنْزِلُونَ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِهِ وَيَصْعَدُونَ إلَيْهِ ; وَلَكِنْ يَقُولُ بِمَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ فِي الْبَاطِنِ لَكِنْ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ إظْهَارُ ذَلِكَ لِلْعَامَّةِ . لِأَنَّ هَذَا إذَا ظَهَرَ لَمْ تَقْبَلْهُ عُقُولُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ بَلْ يُنْكِرُونَهُ وَيَنْفِرُونَ مِنْهُ . فَأَظْهَرَ لَهُمْ مِنْ التَّخْيِيلِ وَالتَّمْثِيلِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَلْبِيسٌ عَلَيْهِمْ وَتَجْهِيلٌ لَهُمْ وَاعْتِقَادُهُمْ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَهُمْ . وَيَجْعَلُونَ أَئِمَّةَ الْبَاطِنِيَّةِ - كَبَنِي عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونَ الْقَدَّاحِ الَّذِينَ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ ; وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَوْلَادِهِ ; بَلْ كَانَ جَدُّهُمْ يَهُودِيًّا ربيبيا لِمَجُوسِيٍّ وَأَظْهَرُوا التَّشَيُّعَ . وَلَمْ يَكُونُوا فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ مِنْ الشِّيعَةِ : لَا الْإِمَامِيَّةُ وَلَا الزَّيْدِيَّةُ ; بَلْ وَلَا الْغَالِيَةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ أَوْ نُبُوَّتَهُ ; بَلْ كَانُوا شَرًّا مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ . وَلِهَذَا كَثُرَ تَصَانِيفُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ وَكَثُرَ غَزْوُ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ . وَقِصَصُهُمْ مَعْرُوفَةٌ . وَابْنُ سِينَا وَأَهْلُ بَيْتِهِ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ عَلَى عَهْدِ حَاكِمِهِمْ الْمِصْرِيِّ . وَلِهَذَا دَخَلَ ابْنُ سِينَا فِي الْفَلْسَفَةِ . وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ هُوَ الْإِمَامُ الْمَكْتُومُ وَأَنَّهُ نَسَخَ شَرْعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَيَقُولُونَ : إنَّ هَؤُلَاءِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة كَانُوا أَئِمَّةً مَعْصُومِينَ ; بَلْ قَدْ يَقُولُونَ : إنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ يَقُولُونَ . إنَّهُمْ آلِهَةٌ يُعْبَدُونَ . وَلِهَذَا أَرْسَلَ الْحَاكِمُ غُلَامَهُ " هشتكير " الدُّرْزِيَّ إلَى وَادِي تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بِالشَّامِ ; فَأَضَلَّ أَهْلَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَبَقَايَاهُ فِيهِمْ إلَى الْيَوْمِ يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ الْحَاكِمِ وَقَدْ أَخْرَجَهُمْ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَرَوْنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا حَجَّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَلَا تَحْرِيمَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ يَدْعُونَ الْمُسْتَجِيبَ لَهُمْ أَوَّلًا إلَى التَّشَيُّعِ وَالْتِزَامِ مَا تُوجِبُهُ الرَّافِضَةُ وَتَحْرِيمِ مَا يُحَرِّمُونَهُ ; ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يَنْقُلُونَهُ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ حَتَّى يَنْقُلُونَهُ فِي الْآخِرِ إلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ : هُوَ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِهِمْ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي بِهِ تَكْمُلُ النَّفْسُ كَمَا تَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الْمَلَاحِدَةُ . فَمَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْعِلْمُ وَصَلَ إلَى الْغَايَةِ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْعَامَّةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَحَلَّتْ لَهُ الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ . فَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا عَظَّمُوهُ وَقَالُوا : كَانَ كَامِلًا فِي الْعِلْمِ - مِنْ جِنْسِ رُءُوسِهِمْ الْمَلَاحِدَةِ وَأَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ لِلْعَامَّةِ خِلَافَ مَا يُبْطِنُهُ لِلْخَاصَّةِ . وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ فَسَادِ أَقْوَالِهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا لَا يُنَاسِبُهُ هَذَا الْمَقَامُ . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا : أَنَّ هَؤُلَاءِ النفاة لِلْعُلُوِّ وَلِلصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ كَصَاحِبِ اللَّمْعَةِ وَأَمْثَالِهِ يَقُولُونَ فِي الرَّسُولِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ : إنَّ الَّذِي أَظْهَرَهُ لَيْسَ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ إظْهَارُهُ لِلْعَامَّةِ . فَإِذَا كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا فِي الرَّسُولِ نَفْسِهِ فَكَيْفَ قَوْلُهُمْ فِي أَتْبَاعِهِ " مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ " مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ؟ . وَمَنْ كَانَ هَذَا أَصْلَ قَوْلِهِ فِي الرَّسُولِ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ : كَانَ مُخَالِفًا لَهُمْ لَا مُوَافِقًا لَا سِيَّمَا إذَا أَظْهَرَ النَّفْيَ الَّذِي كَانَ الرَّسُولُ وَخَوَاصُّ أَصْحَابِهِ عِنْدَهُ يُبْطِنُونَهُ وَلَا يُظْهِرُونَهُ . فَإِنَّهُ يَكُونُ مُخَالِفًا لَهُمْ أَيْضًا . وَهَذَا الْمَسْلَكُ يَرَاهُ عَامَّةُ النفاة كَابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ وَغَيْرِهِ . وَفِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ مِنْ هَذَا قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ . وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَمْثَالُهُ قَدْ يَقُولُونَ أَحْيَانًا هَذَا لَكِنَّ ابْنَ عَقِيلٍ الْغَالِبُ عَلَيْهِ إذَا خَرَجَ عَنْ السُّنَّةِ أَنْ يَمِيلَ إلَى التَّجَهُّمِ وَالِاعْتِزَالِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ ; بِخِلَافِ آخِرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ . فَقَدْ خَرَجَ إلَى السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ . وَأَبُو حَامِدٍ يَمِيلُ إلَى الْفَلْسَفَةِ لَكِنَّهُ أَظْهَرَهَا فِي قَالَبِ التَّصَوُّفِ وَالْعِبَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَلِهَذَا رَدَّ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَخَصُّ أَصْحَابِهِ أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ : " شَيْخُنَا أَبُو حَامِدٍ دَخَلَ فِي بَطْنِ الْفَلَاسِفَةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُمْ فَمَا قَدَرَ " وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ مِنْ الْقَوْلِ بِمَذَاهِبِ الْبَاطِنِيَّةِ مَا يُوجَدُ تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ الْمَذْكُورُونَ قَبْلُ .