بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا ؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ : هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ ؟ .
وَأَمَّا الْكَذِبُ وَالْأَسْرَارُ الَّتِي يَدْعُونَهَا عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ : فَمِنْ أَكْبَرِ الْأَشْيَاءِ [ كَذِبًا ] حَتَّى يُقَالَ : مَا كُذِبَ عَلَى أَحَدٍ مَا كُذِبَ عَلَى جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَمِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُضَافَةِ كِتَابُ " الْجَفْرِ " الَّذِي يَدَّعُونَ أَنَّهُ كَتَبَ فِيهِ الْحَوَادِثَ وَالْجَفْرُ : وَلَدُ الْمَاعِزِ . يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ فِي جِلْدِهِ وَكَذَلِكَ كِتَابُ " الْبِطَاقَةِ " الَّذِي يَدَّعِيهِ ابْنُ الحلي وَنَحْوُهُ مِنْ الْمَغَارِبَةِ وَمِثْلُ كِتَابِ : " الْجَدْوَلِ " فِي الْهِلَالِ وَ " الْهَفْتِ " عَنْ جَعْفَرٍ وَكَثِيرٍ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ . وَمِثْلُ كِتَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " الَّذِي صَنَّفَهُ جَمَاعَةٌ فِي دَوْلَةِ بَنِي بويه بِبَغْدَادَ وَكَانُوا مِنْ الصَّابِئَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمُتَحَنِّفَةِ جَمَعُوا بِزَعْمِهِمْ بَيْنَ دِينِ الصَّابِئَةِ الْمُبَدِّلِينَ وَبَيْنَ الْحَنِيفِيَّةِ وَأَتَوْا بِكَلَامِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَبِأَشْيَاءَ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَفِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ النَّاسِ - مِنْ بَعْضِ أَكَابِرِ قُضَاةِ النَّوَاحِي - يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ . وَهَذَا قَوْلُ زِنْدِيقٍ وَتَشْنِيعُ جَاهِلٍ . وَمِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ مَلَاحِمِ " ابْنِ غنضب ; وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ . وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْوُجُودِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمَلَاحِمِ " ابْنِ غنضب إنَّمَا صَنَّفَهَا بَعْضُ الْجُهَّالِ فِي دَوْلَةِ نُورِ الدِّينِ وَنَحْوِهَا وَهُوَ شِعْرٌ فَاسِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَاظِمَهُ جَاهِلٌ . وَكَذَلِكَ عَامَّةُ هَذِهِ الْمَلَاحِمِ الْمَرْوِيَّةِ بِالنَّظْمِ وَنَحْوِهِ عَامَّتُهَا مِنْ الْأَكَاذِيبِ وَقَدْ أُحْدِثَ فِي زَمَانِنَا مِنْ الْقُضَاةِ وَالْمَشَايِخِ غَيْرُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَقَدْ قَرَّرْت بَعْضَ هَؤُلَاءِ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ادَّعَى قِدَمَهَا وَقُلْت لَهُ : بَلْ أَنْتَ صَنَّفْتهَا وَلَبَّسْتهَا عَلَى بَعْضِ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحَاصِرِي عَكَّةَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ لَبَّسُوا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَلِكِ . وَبَابُ الْكَذِبِ فِي الْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لِأَنَّ تَشَوُّفَ الَّذِينَ يُغَلِّبُونَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الدِّينِ إلَى ذَلِكَ تَشَوُّفٌ لَكِنَّ تَشَوُّفَهُمْ إلَى الدِّينِ أَقْوَى وَأُولَئِكَ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ الْفُرْقَانِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِنْ النُّورِ مَا لِأَهْلِ الدِّينِ . فَلِهَذَا كَثُرَ الْكَذَّابُونَ فِي ذَلِكَ وَنَفَقَ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَأُكِلَتْ بِهِ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ بِالْبَاطِلِ وَقُتِلَتْ بِهِ نُفُوسٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْمُتَشَوِّفَةِ إلَى الْمُلْكِ وَنَحْوِهَا . وَلِهَذَا يُنَوِّعُونَ طُرُقَ الْكَذِبِ فِي ذَلِكَ وَيَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ فِيهِ : تَارَةً بِالْإِحَالَةِ عَلَى الْحَرَكَاتِ وَالْأَشْكَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ . وَالشُّهُبِ وَالرُّعُودِ وَالْبُرُوقِ وَالرِّيَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتَارَةً بِمَا يُحْدِثُونَهُ هُمْ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالْأَشْكَالِ كَالضَّرْبِ بِالرَّمْلِ وَالْحَصَا وَالشَّعِيرِ وَالْقُرْعَةِ بِالْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ ; فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ عِلْمَ الْحَوَادِثِ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا الِاسْتِقْسَامِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ قِدَاحًا أَوْ حَصًى أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ . فَكُلُّ مَا يُحْدِثُهُ الْإِنْسَانُ بِحَرَكَةِ مِنْ تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ الْأَجْسَامِ لِيَسْتَخْرِجَ بِهِ عِلْمَ مَا يَسْتَقْبِلُهُ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ ; بِخِلَافِ الْفَأْلِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُعْجِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ : { وَكَانَ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ } لِأَنَّ الْفَأْلَ تَقْوِيَةٌ لِمَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالطِّيَرَةُ مُعَارِضَةٌ لِذَلِكَ فَيُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَطَيَّرَ وَإِنَّمَا تَضُرُّ الطِّيَرَةُ مَنْ تَطَيَّرَ لِأَنَّهُ أَضَرَّ نَفْسَهُ . فَأَمَّا الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ فَلَا . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَسَبَبَ إصَابَتِهَا تَارَةً وَخَطَئِهَا تَارَاتٍ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ : أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ فِيهَا كَذِبًا كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً كَمَا يَتَعَمَّدُ خَلْقٌ كَثِيرٌ الْكَذِبَ فِي الرُّؤْيَا الَّتِي مِنْهَا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَكَمَا كَانَتْ الْجِنُّ تَخْلِطُ بِالْكَلِمَةِ تَسْمَعُهَا مِنْ السَّمَاءِ مِائَةَ كِذْبَةٍ ثُمَّ تُلْقِيهَا إلَى الْكُهَّانِ . وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السلمي قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ . قَالَ : فَلَا تَأْتِهِمْ . قَالَ : قُلْت : وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ . قَالَ : ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَا يَصُدُّهُمْ . قَالَ : قُلْت : وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ . قَالَ : كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ } . فَإِذَا كَانَ مَا هُوَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ وَمِنْ أَخْبَارِ الْمَلَائِكَةِ مَا قَدْ يُتَعَمَّدُ فِيهِ الْكَذِبُ الْكَثِيرُ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ فِي نَفْسِهِ مُضْطَرِبٌ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى أَصْلٍ ؟ فَلِهَذَا تَجِدُ عَامَّةَ مَنْ فِي دِينِهِ فَسَادٌ يَدْخُلُ فِي الْأَكَاذِيبِ الْكَوْنِيَّةِ مِثْلُ أَهْلِ الِاتِّحَادِ . فَإِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ - فِي كِتَابِ " عَنْقَاءِ مُغْرِبٍ " وَغَيْرِهِ - أَخْبَرَ بِمُسْتَقْبَلَاتٍ كَثِيرَةٍ عَامَّتُهَا كَذِبٌ وَكَذَلِكَ ابْنُ سَبْعِينَ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوا مُدَّةَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّذِي وَرِثُوهُ مِنْ الْيَهُودِ وَمِنْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ الَّذِي وَرِثُوهُ مِنْ الصَّابِئَةِ ; كَمَا فَعَلَ أَبُو نَصْرٍ الْكِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ ; وَكَمَا فَعَلَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْحَابِ الرازي ; وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي تَأْوِيلِ وَقَائِعِ النُّسَّاكِ مِنْ الْمَائِلِينَ إلَى التَّشَيُّعِ . وَقَدْ رَأَيْت مِنْ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ طَوَائِفَ يَدَّعُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ الْأَسْرَارِ الْمَخْزُونَةِ وَالْعُلُومِ الْمَصُونَةِ وَخَاطَبْت فِي ذَلِكَ طَوَائِفَ مِنْهُمْ وَكُنْت أَحْلِفُ لَهُمْ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ مُفْتَرًى وَأَنَّهُ لَا يَجْرِي مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ شَيْءٌ وَطَلَبْت مُبَاهَلَةَ بَعْضِهِمْ - لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأُصُولِ الدِّينِ - وَكَانُوا مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ الَّذِينَ يَطُولُ وَصْفُ دَعَاوِيهِمْ . فَإِنَّ شَيْخَهُمْ الَّذِي هُوَ عَارِفُ وَقْتِهِ وَزَاهِدُهُ عِنْدَهُمْ : كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ الَّذِي يَنْزِلُ وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ نُزُولُ رُوحَانِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ أُمَّهُ اسْمُهَا مَرْيَمُ وَأَنَّهُ يَقُومُ بِجَمْعِ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ : وَأَنَّهُ يَظْهَرُ مَظْهَرًا أَكْمَلَ مِنْ مَظْهَرِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُرْسَلِينَ . وَلَهُمْ مَقَالَاتٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَوَصْفُهَا .