بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا ؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ : هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ ؟ .
فَصْلٌ وَتَلْخِيصُ النُّكْتَةِ : أَنَّ الرُّسُلَ إمَّا أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْحَقَائِقَ الْخَبَرِيَّةَ وَالطَّلَبِيَّةَ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَإِذَا عَلِمُوهَا : فَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُمْ بَيَانُهَا بِالْكَلَامِ وَالْكِتَابِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ وَإِذَا أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ الْبَيَانُ : فَإِمَّا أَنْ يُمْكِنَ لِلْعَامَّةِ وَلِلْخَاصَّةِ أَوْ لِلْخَاصَّةِ فَقَطْ . فَإِنْ قَالَ : إنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ والمتكلمين أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُمْ وَأَحْسَنُ بَيَانًا لَهَا مِنْهُمْ ; فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ . وَسَنَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ بَعْدَ هَذَا ; إذًا الْخِطَابُ هُنَا لِبَيَانِ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ وَأَنَّهُ لَا يَقُولُهُ إلَّا مُنَافِقٌ أَوْ جَاهِلٌ . وَإِنْ قَالَ : إنَّ الرُّسُلَ مَقْصِدُهُمْ صَلَاحُ عُمُومِ الْخَلْقِ وَعُمُومُ الْخَلْقِ لَا يُمْكِنُهُمْ فَهْمُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْبَاطِنَةِ فَخَاطَبُوهُمْ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِيَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَأَظْهَرُوا الْحَقَائِقَ الْعَقْلِيَّةَ فِي الْقَوَالِبِ الْحِسِّيَّةِ ; فَتَضَمَّنَ خِطَابُهُمْ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ : مِنْ التَّخْيِيلِ وَالتَّمْثِيلِ لِلْمَعْقُولِ بِصُورَةِ الْمَحْسُوسِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ عُمُومُ النَّاسِ فِي أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِالْمَعَادِ . وَذَلِكَ يُقَرِّرُ فِي النُّفُوسِ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَعَظَمَةِ الْيَوْمِ الْآخِرِ مَا يَحُضُّ النُّفُوسَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ ; فَيَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَيَنَالُونَ السَّعَادَةَ بِحَسَبِ إمْكَانِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ ; إذْ هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ الرُّسُلُ هُوَ غَايَةُ الْإِمْكَانِ فِي كَشْفِ الْحَقَائِقِ لِعُمُومِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَمَقْصُودُ الرُّسُلِ : حِفْظُ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَإِقَامَةُ مَصْلَحَةِ مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ . فَمَعْلُومٌ : أَنَّ هَذَا قَوْلُ حُذَّاقِ الْفَلَاسِفَةِ مِثْلُ الْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ كُلِّ حَاذِقٍ وَفَاضِلٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْقَدَرِ الَّذِي يُخَالِفُ فِيهِ أَهْلَ الْحَدِيثِ . فالفارابي يَقُولُ : " إنَّ خَاصَّةَ النُّبُوَّةِ جَوْدَةُ تَخْيِيلِ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ فِي الصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ " أَوْ نَحْوُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ . وَابْنُ سِينَا يَذْكُرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ وَيَقُولُ : " مَا كَانَ يُمْكِنُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ مَعَ أُولَئِكَ الْعِبْرَانِيِّينَ وَلَا يُمْكِنُ مُحَمَّدًا مَعَ أُولَئِكَ الْعَرَبِ الْجُفَاةِ أَنْ يُبَيِّنَا لَهُمْ الْحَقَائِقَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْجِزُونَ عَنْ فَهْمِ ذَلِكَ وَإِنْ فَهِمُوهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ انْحَلَّتْ عزماتهم عَنْ اتِّبَاعِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَقْتَضِي الْعَمَلَ " . وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَمْثَالِهِ وَمَنْ بَعْدَهُ : طَائِفَةٌ مِنْهُ فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِ الْإِحْيَاءِ وَكَذَلِكَ فِي كَلَامِ الرازي . وَأَمَّا الِاتِّحَادِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ : فَعَلَيْهِ مَدَارُهُمْ وَمَبْنَى كَلَامِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْقَرَامِطَةِ عَلَيْهِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ ظَوَاهِرَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ جَمِيعًا وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ فَلَا يُنْكِرُونَ الْعَمَلِيَّاتِ الظَّاهِرَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ لَكِنْ قَدْ يَجْعَلُونَهَا لِعُمُومِ النَّاسِ لَا لِخُصُوصِهِمْ كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ . وَمَدَارُ كَلَامِهِمْ : عَلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَصْلَحَةِ الْعُمُومِ عِلْمًا وَعَمَلًا . وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَلَا . وَعَلَى هَذَا يَدُورُ كَلَامُ أَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَسَائِرِ فُضَلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ فِي مُتَفَقِّهَتِهِمْ ومتصوفتهم وَعُقَلَاءِ فَلَاسِفَتِهِمْ . وَإِلَى هُنَا كَانَ يَنْتَهِي عِلْمُ ابْنِ سِينَا إذْ تَابَ وَالْتَزَمَ الْقِيَامَ بِالْوَاجِبَاتِ الناموسية . فَإِنَّ قُدَمَاءَ الْفَلَاسِفَةِ كَانُوا يُوجِبُونَ اتِّبَاعَ النَّوَامِيسِ الَّتِي وَضَعَهَا أَكَابِرُ حُكَمَاءِ الْبِلَادِ فَلِأَنْ يُوجِبُوا اتِّبَاعَ نَوَامِيسَ الرُّسُلِ أَوْلَى . فَإِنَّهُمْ - كَمَا قَالَ ابْنُ سِينَا - : " اتَّفَقَ فَلَاسِفَةُ الْعَالَمِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْرَعْ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ الْمُحَمَّدِيِّ " . وَكُلُّ عُقَلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَأَنَّ جِنْسَ الرُّسُلِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَاهِيرِ ثُمَّ قَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ حُكَمَاءُ كِبَارُ وَأَنَّ الْفَلَاسِفَةَ الْحُكَمَاءَ أَنْبِيَاءُ صِغَارٌ وَقَدْ يَجْعَلُونَهُمْ صِنْفَيْنِ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ شَرْحِ ذَلِكَ . فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ : أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَسَاطِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ والمتكلمين غَايَةُ مَا يَقُولُونَ : هَذَا الْقَوْلُ وَنَحْنُ ذَكَرْنَا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ الْحَاصِرِ لِئَلَّا يَخْرُجَ عَنْهُ قِسْمٌ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُخَالِفَ لِعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ عِلْمًا وَعَمَلًا : إمَّا جَاهِلٌ وَإِمَّا مُنَافِقٌ وَالْمُنَافِقُ جَاهِلٌ وَزِيَادَةً كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالْجَاهِلُ هُنَا فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِهَا فَالْمُنْكِرُ لِذَلِكَ جَاهِلٌ مُنَافِقٌ . فَقُلْنَا : إنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ وَكِبَارَ طَائِفَتِهِ أَعْلَمُ مِنْ الرُّسُلِ بِالْحَقَائِقِ وَأَحْسَنُ بَيَانًا لَهَا : فَهَذَا زِنْدِيقٌ مُنَافِقٌ إذَا أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْمُؤْمِنِينَ . وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ مَعَهُ . وَإِنْ قَالَ : إنَّ الرُّسُلَ كَانُوا أَعْظَمَ عِلْمًا وَبَيَانًا لَكِنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ لَا يُمْكِنُ عِلْمُهَا أَوْ لَا يُمْكِنُ بَيَانُهَا مُطْلَقًا أَوْ يُمْكِنُ الْأَمْرَانِ لِلْخَاصَّةِ . قُلْنَا : فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُكُمْ أَنْتُمْ مَا عَجَزَتْ عَنْهُ الرُّسُلُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ . إنْ قُلْتُمْ : لَا يُمْكِنُ عِلْمُهَا . قُلْنَا : فَأَنْتُمْ وَأَكَابِرُكُمْ لَا يُمْكِنُكُمْ عِلْمُهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَإِنْ قُلْتُمْ : لَا يُمْكِنُهُمْ بَيَانُهَا . قُلْنَا : فَأَنْتُمْ وَأَكَابِرُكُمْ لَا يُمْكِنُكُمْ بَيَانُهَا . وَإِنْ قُلْتُمْ : يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ . قُلْنَا : فَيُمْكِنُ ذَلِكَ مِنْ الرُّسُلِ لِلْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ . فَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي خَاصَّةِ أَصْحَابِ الرُّسُلِ مَنْ يُمْكِنُهُمْ فَهْمُ ذَلِكَ : جَعَلُوا السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ دُونَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ . وَهَذَا مِنْ مَقَالَاتِ الزَّنَادِقَةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ بَعْضَ الْأُمَمِ الْأَوَائِلِ مِنْ الْيُونَانِ وَالْهِنْدِ وَنَحْوِهِمْ أَكْمَلَ عَقْلًا وَتَحْقِيقًا لِلْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَلِلْعِبَادِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ . فَهَذَا مِنْ مَقَالَاتِ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ ; إذْ الْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَكْمَلُهُمْ وَأَنَّ أَكْمَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلَهَا هُمْ سَابِقُوهَا .