بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا ؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ : هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ ؟ .
ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ( الْفَصْلَ الثَّانِيَ عَشَرَ : فِي ذِكْرِ خُلَاصَةٍ تَحْوِي مناصيص الْأَئِمَّةِ بَعْدَ أَنْ أَفْرَدَ لِكُلِّ مِنْهُمْ فَصْلًا - قَالَ : " لَمَّا تَتَبَّعْت أُصُولَ مَا صَحَّ لِي رِوَايَتُهُ فَعَثَرْت فِيهَا بِمَا قَدْ ذَكَرْت مِنْ عَقَائِدِ الْأَئِمَّةِ فَرَتَّبْتهَا عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى تَرْتِيبِ الْفُصُولِ الَّتِي أَثْبَتَهَا وَافْتَتَحْت كُلَّ " فَصْلٍ " بِنَيِّفِ مِنْ الْمَحَامِدِ يَكُونُ لِإِمَامَتِهِمْ إحْدَى الشَّوَاهِدِ دَاعِيَةً إلَى اتِّبَاعِهِمْ وَوُجُوبِ وِفَاقِهِمْ وَتَحْرِيمِ خِلَافِهِمْ وَشِقَاقِهِمْ فَإِنَّ اتِّبَاعَ مَنْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ فِي زَمَانِنَا بِمَنْزِلَةِ اتِّبَاعِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَبْلُغُنَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذْ لَا يَسَعُ مُسْلِمًا خِلَافُهُ وَلَا يُعْذَرُ فِيهِ فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ الْأَدِلَّاءُ وَأَرْبَابُ مَذَاهِبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالصُّدُورُ وَالسَّادَةُ وَالْعُلَمَاءُ الْقَادَةُ أُولُوا الدِّينِ وَالدِّيَانَةِ وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعِلْمِ الْوَافِرِ وَالِاجْتِهَادِ الظَّاهِرِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى اقْتَدَوْا بِهِمْ فِي الْفُرُوعِ فَجَعَلُوهُمْ فِيهَا وَسَائِلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ حَتَّى صَارُوا أَرْبَابَ الْمَذَاهِبِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ فَلْيَرْضَوْا كَذَلِكَ بِهِمْ فِي الْأُصُولِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ وَبِمَا نَصُّوا عَلَيْهِ وَدَعَوْا إلَيْهِ " . قَالَ : " فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُمْ أَعْرَفُ قَطْعًا بِمَا صَحَّ مِنْ مُعْتَقَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ بَعْدِهِ لِجَوْدَةِ مَعَارِفِهِمْ وَحِيَازَتِهِمْ شَرَائِطَ الْإِمَامَةِ وَلِقُرْبِ عَصْرِهِمْ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ " . قَالَ : " ثُمَّ أَرَدْت - وَوَافَقَ مُرَادِي سُؤَالُ بَعْضِ الْإِخْوَانِ - أَنْ أَذْكُرَ خُلَاصَةَ مناصيصهم مُتَضَمِّنَةً بَعْضَ أَلْفَاظِهِمْ . فَإِنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْحِفْظِ وَهِيَ اللُّبَابُ لِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَاسْتَعَنْت بِمَنْ عَلَيْهِ التكلان وَقُلْت : إنَّ الَّذِي آثَرْنَاهُ مِنْ مناصيصهم يَجْمَعُهُ فَصْلَانِ : - أَحَدُهُمَا : فِي بَيَانِ السُّنَّةِ وَفَضْلِهَا . وَالثَّانِي : فِي هِجْرَانِ الْبِدْعَةِ وَأَهْلِهَا . أَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فَاعْلَمْ أَنَّ " السُّنَّةَ " طَرِيقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّسَنُّنُ بِسُلُوكِهَا وَإِصَابَتُهَا وَهِيَ " أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ " : أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ وَعَقَائِدُ . فَالْأَقْوَالُ : نَحْوُ الْأَذْكَارِ وَالتَّسْبِيحَاتِ الْمَأْثُورَةِ . وَالْأَفْعَالُ : مِثْلُ سُنَنِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِ السِّيَرِ الْمَرْضِيَّةِ وَالْآدَابِ الْمَحْكِيَّةِ فَهَذَانِ الْقِسْمَانِ فِي عِدَادِ التَّأْكِيدِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَاكْتِسَابِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : سُنَّةُ الْعَقَائِدِ وَهِيَ مِنْ الْإِيمَانِ إحْدَى الْقَوَاعِدِ " . قَالَ : " وَهَا أَنَا ذَا أَذْكُرُ بِعَوْنِ اللَّهِ خُلَاصَةَ مَا نَقَلْته عَنْهُمْ مُفَرَّقًا وَأُضِيفُ إلَيْهِ مَا دُوِّنَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْهُمْ مُطْلَقًا وَأُرَتِّبُهَا مُرَشَّحَةً وَبِبَعْضِ مناصيصهم مُوَشَّحَةً بِأَوْجَزِ لَفْظٍ عَلَى قَدْرٍ وَسَعْيٍ لِيَسْهُلَ حِفْظُهُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعِيَ فَأَقُولُ : لِيَعْلَمَ الْمُسْتَنُّ أَنَّ سُنَّةَ الْعَقَائِدِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ " : ضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ . وَضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحْبِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ وَضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي أُولَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ . أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : فَلْنَعْتَقِدْ أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءَ وَصَفَاتٍ قَدِيمَةً غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ جَاءَ بِهَا كِتَابُهُ وَأَخْبَرَ بِهَا الرَّسُولُ أَصْحَابَهُ فِيمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ وَصَحَّحَهُ النُّقَّادُ الأثبات وَدَلَّ الْقُرْآنُ الْمُبِينُ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمَتِينُ عَلَى ثُبُوتِهَا . قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى " وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوَّلٌ لَمْ يَزُلْ وَآخِرٌ لَا يُزَالُ أَحَدٌ قَدِيمٌ وَصَمَدٌ كَرِيمٌ عَلِيمٌ حَلِيمٌ عَلِيٌّ عَظِيمٌ رَفِيعٌ مَجِيدٌ وَلَهُ بَطْشٌ شَدِيدٌ وَهُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ قَوِيٌّ قَدِيرٌ مَنِيعٌ نَصِيرٌ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } إلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ النَّفْسِ وَالْوَجْهِ وَالْعَيْنِ وَالْقَدَمِ وَالْيَدَيْنِ وَالْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ وَالْمَحَبَّةِ وَالضَّحِكِ وَالْعَجَبِ وَالِاسْتِحْيَاءِ ; وَالْغَيْرَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالسَّخَطِ وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ وَالْقُرْبِ وَالدُّنُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالْعُلُوِّ وَالْكَلَامِ وَالسَّلَامِ وَالْقَوْلِ وَالنِّدَاءِ وَالتَّجَلِّي وَاللِّقَاءِ وَالنُّزُولِ ; وَالصُّعُودِ وَالِاسْتِوَاءِ وَأَنَّهُ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ . قَالَ مَالِكٌ : إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ " وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ نَعْرِفُ رَبَّنَا فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ عَلَى الْعَرْشِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ
الجهمية إنَّهُ هَهُنَا - وَأَشَارَ إلَى الْأَرْضِ " وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } قَالَ : " عِلْمُهُ " قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ فِي سَمَائِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ " قَالَ أَحْمَدُ : " إنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ عَالِمٌ بِكُلِّ مَكَانٍ " وَإِنَّهُ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ وَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَيْفَ شَاءَ وَإِنَّهُ يَعْلُو عَلَى كُرْسِيِّهِ وَالْإِيمَانُ بِالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَمَا وَرَدَ فِيهِمَا مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ . وَأَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ يَصْعَدُ إلَيْهِ وَتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ وَأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ وَخَلَقَ الْقَلَمَ وَجَنَّةَ عَدْنٍ وَشَجَرَةَ طُوبَى بِيَدَيْهِ وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْهِ وَأَنَّ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ . وَقَالَ ابْنُ عُمَرُ : " خَلَقَ اللَّهُ بِيَدَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ : آدَمَ وَالْعَرْشَ وَالْقَلَمَ وَجَنَّةَ عَدْنٍ وَقَالَ لِسَائِرِ الْخَلْقِ : كُنْ فَكَانَ " وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ كَيْفَ يَشَاءُ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " لَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِوَحْيٍ يُتْلَى " . وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ بِجَمِيعِ جِهَاتِهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا حَرْفَ مِنْهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : " مَنْ كَفَرَ بِحَرْفِ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ قَالَ : لَا أُؤْمِنُ بِهَذِهِ اللَّامِ فَقَدْ كَفَرَ " وَأَنَّ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى الرُّسُلِ مِائَةٌ - وَأَرْبَعَةُ كُتُبٍ - كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ أَحْمَدُ : وَمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَمَا فِي الْمَصَاحِفِ وَتِلَاوَةُ النَّاسِ وَكَيْفَمَا يُقْرَأُ وَكَيْفَمَا يُوصَفُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " قَالَ الْبُخَارِيُّ : " وَأَقُولُ : فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ وَفِي صُدُورِ الرِّجَالِ قُرْآنٌ فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا يُسْتَتَابُ ; فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْكُفْرِ " . قَالَ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْمُعْتَقَدَ بِالدَّلَائِلِ فَقَالَ " لِلَّهِ أَسْمَاءٌ وَصَفَاتٌ جَاءَ بِهَا كِتَابُهُ ; وَأَخْبَرَ بِهَا نَبِيُّهُ أُمَّتَهُ ; لَا يَسَعُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ رَدُّهَا - إلَى أَنْ قَالَ - نَحْوَ إخْبَارِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إيَّانَا أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ لِقَوْلِهِ : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وَأَنَّ لَهُ يَمِينًا بِقَوْلِهِ : { وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا لِقَوْلِهِ : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } وَقَوْلُهُ : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَأَنَّ لَهُ قَدَمًا لِقَوْلِهِ : { حَتَّى يَضَعَ الرَّبُّ فِيهَا قَدَمَهُ } يَعْنِي جَهَنَّمَ . وَأَنَّهُ يَضْحَكُ مِنْ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : إنَّهُ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ يَضْحَكُ إلَيْهِ } وَأَنَّهُ يَهْبِطُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْوَرَ { لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ : إنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ } وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَأَنَّ لَهُ إصْبَعًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ قَلْبٍ إلَّا وَهُوَ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ } . قَالَ : " وَسِوَى مَا نَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ أَحَادِيثُ جَاءَتْ فِي الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ وَتَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ نَحْوَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الذَّاتِ وَقَوْلِهِ : { لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ وَاَللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي } وَقَوْلِهِ : { لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَقَوْلِهِ : { يَدُ اللَّهِ مَلْأَى } وَقَوْلِهِ : { بِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَرْضِينَ وَتَكُونُ السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ } . وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ : { ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ الرَّبِّ } وَقَوْلُهُ : { لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ } وَقَوْلُهُ فِي { حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا يَفْعَلُ رَبُّنَا بِنَا إذَا لَقِينَاهُ ؟ قَالَ : تُعْرَضُونَ عَلَيْهِ بَادِيَةً لَهُ صَفَحَاتُكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَيَأْخُذُ رَبُّك بِيَدِهِ غَرْفَةً مِنْ الْمَاءِ فَيَنْضَحُ قِبَلَكُمْ فَلَعَمْرُ إلَهِك مَا يُخْطِئُ وَجْهَ أَحَدِكُمْ مِنْهَا قَطْرَةٌ } أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ . وَحَدِيثُ : { الْقَبْضَةُ الَّتِي يُخْرِجُ بِهَا مِنْ النَّارِ قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ . نَهْرُ الْحَيَاةِ } . وَنَحْوُ الْحَدِيثِ : { رَأَيْت رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ } وَنَحْوُ قَوْلِهِ : { خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } وَقَوْلِهِ : { يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { كَلَّمَ أَبَاك كِفَاحًا } وَقَوْلِهِ : { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ } وَقَوْلِهِ : { يَتَجَلَّى لَنَا رَبُّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَاحِكًا } . وَفِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ فِي الصَّحِيحِ : { ثُمَّ دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } وَقَوْلِهِ : { كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي } وَقَوْلِهِ : { لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ : رِجْلَهُ - فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ : قَدْ قَدْ وَفِي رِوَايَةٍ قَطُّ قَطُّ بِعِزَّتِك } . وَنَحْوُ قَوْلِهِ : { فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا } وَقَوْلِهِ : { يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ } . إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ هَالَتْنَا أَوْ لَمْ تَهُلْنَا بَلَغَتْنَا أَوْ لَمْ تَبْلُغْنَا اعْتِقَادُنَا فِيهَا وَفِي الْآيِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ : أَنَّا نَقْبَلُهَا وَلَا نُحَرِّفُهَا وَلَا نُكَيِّفُهَا وَلَا نُعَطِّلُهَا وَلَا نَتَأَوَّلُهَا وَعَلَى الْعُقُولِ لَا نَحْمِلُهَا وَبِصِفَاتِ الْخَلْقِ لَا نُشَبِّهُهَا وَلَا نُعْمِلُ رَأْيَنَا وَفِكْرَنَا فِيهَا وَلَا نَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا نَنْقُصُ مِنْهَا بَلْ نُؤْمِنُ بِهَا وَنَكِلُ عِلْمَهَا إلَى عَالَمِهَا كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَهُمْ الْقُدْوَةُ لَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ . رُوِينَا عَنْ إسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا نُزِيلُ صِفَةً مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهَا الرَّسُولُ عَنْ جِهَتِهَا لَا بِكَلَامِ وَلَا بِإِرَادَةِ إنَّمَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ الْأَدَاءُ وَيُوقِنُ بِقَلْبِهِ أَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْقُرْآنِ إنَّمَا هِيَ صِفَاتُهُ وَلَا يَعْقِلُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ تِلْكَ الصِّفَاتِ إلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي عَرَّفَهُمْ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ . فَإِمَّا أَنْ يُدْرِكَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ تِلْكَ الصِّفَاتِ فَلَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ - الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ " . وَكَمَا رُوِينَا عَنْ مَالِكٍ والأوزاعي وَسُفْيَانَ ; وَاللَّيْثِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْأَحَادِيثِ فِي الرُّؤْيَةِ وَالنُّزُولِ : " أُمِرُوهَا كَمَا جَاءَتْ " . وَكَمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ : { إنَّ اللَّهَ يَهْبِطُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا } وَنَحْوَ هَذَا مِنْ الْأَحَادِيثِ : إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ قَدْ رَوَاهَا الثِّقَاتُ فَنَحْنُ نَرْوِيهَا وَنُؤْمِنُ بِهَا . وَلَا نُفَسِّرُهَا " . انْتَهَى كَلَامُ الكرخي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَالْعَجَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ إذَا اُحْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ الصِّفَاتِ قَالَ : قَالَتْ الْحَنَابِلَةُ : إنَّ اللَّهَ : كَذَا وَكَذَا بِمَا فِيهِ تَشْنِيعٌ وَتَرْوِيجٌ لِبَاطِلِهِمْ وَالْحَنَابِلَةُ اقْتَفَوْا أَثَرَ السَّلَفِ وَسَارُوا بِسَيْرِهِمْ وَوَقَفُوا بِوُقُوفِهِمْ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ . النَّوْعُ الثَّانِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ فِيهِ مِنْ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ . فَإِنَّ الرَّدَّ بِمُجَرَّدِ الشَّتْمِ وَالتَّهْوِيلِ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَحَدٌ . وَالْإِنْسَانُ لَوْ أَنَّهُ يُنَاظِرُ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ : لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ مِنْ الْحُجَّةِ مَا يُبَيِّنُ بِهِ الْحَقَّ الَّذِي مَعَهُ وَالْبَاطِلَ الَّذِي مَعَهُمْ . فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } . فَلَوْ كَانَ خَصْمُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ - سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ أَبُو الْفَرَجِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ أَشْهَرِ الطَّوَائِفِ بِالْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ - لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الْحُجَّةَ وَيَعْدِلَ عَمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ إذْ كَانَ فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ دَعٌّ وَالْمُنَازِعُونَ لَهُ - كَمَا ادَّعَاهُ - هُمْ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ أَعْلَمُ مِنْهُ بِالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ . وَهُوَ فِي كَلَامِهِ وَرَدِّهِ لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةِ أَصْلًا لَا حُجَّةً سَمْعِيَّةً وَلَا عَقْلِيَّةً . وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ تَقْلِيدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - قَدْ خَالَفَهَا أَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - فَقَلَّدَهُمْ فِيمَا زَعَمُوا أَنَّهُ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ كَمَا فَعَلَ هَذَا الْمُعْتَرِضُ . وَمَنْ يَرُدُّ عَلَى النَّاسِ بِالْمَعْقُولِ إنْ لَمْ يُبَيِّنْ حُجَّةً عَقْلِيَّةً وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَحَالَ النَّاسَ عَلَى الْمَجْهُولَاتِ كَمَعْصُومِ الرَّافِضَةِ وَغَوْثِ الصُّوفِيَّةِ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : " إنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ لَا يُحَدِّثُونَ " فَيُقَالُ لَهُ : قَدْ بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ لِيَدْعُوهُمْ إلَى اللَّهِ . فَمَنْ الَّذِي أَسْقَطَ اللَّهُ مُخَاطَبَتَهُ مِنْ النَّاسِ ؟ دَعْ مَنْ تَعْرِفُ أَنْتَ وَغَيْرُك مِمَّنْ فَضَّلَهُمْ اللَّهُ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَلَوْ أَرَادَ سَفِيهٌ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الرَّادِّ بِمِثْلِ رَدِّهِ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " إنَّهُمْ يُكَابِرُونَ الْعُقُولَ " . فَنَقُولُ : الْمُكَابَرَةُ لِلْعُقُولِ إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي إثْبَاتِ مَا أَثْبَتُوهُ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي تَنَاقُضِهِمْ بِجَمْعِ مِنْ إثْبَاتِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَفْيِ الْجَوَارِحِ . أَمَّا الْأَوَّلُ : فَبَاطِلٌ . فَإِنَّ الْمُجَسِّمَةَ الْمَحْضَةَ الَّتِي تُصَرِّحُ بِالتَّجْسِيمِ الْمَحْضِ وَتَغْلُو فِيهِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ : إنَّ قَوْلَهَا مُكَابَرَةٌ لِلْعُقُولِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ . إنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ ; بَلْ الَّذِينَ رَدُّوا عَلَى غَالِيَةِ الْمُجَسِّمَةِ - مِثْلِ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَشِيعَتِهِ - وَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ إلَّا بِحُجَجِ تَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ . وَالْمُنَازِعُ لَهُمْ - وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَقُولُهُ - فَقَدْ قَابَلَهُمْ بِنَظِيرِ حُجَجِهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا عَلَيْهِ بِأَظْهَرَ مِنْهُ عَلَيْهِمْ إذْ مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ حَقٌّ وَبَاطِلٌ . وَإِذَا كَانَ مِثْلُ " أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ إنَّمَا يَعْتَمِدُ فِي نَفْيِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ نفاة النُّظَّارِ فَأُولَئِكَ لَا يَكَادُونَ يَزْعُمُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أَنَّهُ مُكَابَرَةٌ لِلْمَعْقُولِ ; حَتَّى جاحدوا الصَّانِعَ الَّذِينَ هُمْ أَجْهَلُ الْخَلْقِ وَأَضَلُّهُمْ وَأَكْفَرُهُمْ وَأَعْظَمُهُمْ خِلَافًا لِلْعُقُولِ لَا يَزْعُمُ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ انْتَصَرَ بِهِمْ
أَبُو الْفَرَجِ : أَنَّ قَوْلَهُمْ مُكَابَرَةٌ لِلْمَعْقُولِ بَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعِلْمَ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ إنَّمَا يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ . وَهَذَا الْقَوْلُ - وَإِنْ كَانَ يَقُولُهُ جُلُّ هَؤُلَاءِ النفاة مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - فَلَيْسَ هُوَ طَرِيقَةً مَرْضِيَّةً . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ : أَنَّ هَؤُلَاءِ النفاة لَا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعِلْمَ بِفَسَادِ قَوْلِ الْمُثْبِتَةِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَلَا أَنَّ قَوْلَهُمْ مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ وَإِنْ شَنَّعُوا عَلَيْهِمْ بِأَشْيَاءَ يَنْفِرُ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَذَاكَ لِيَسْتَعِينُوا بِنَفْرَةِ النَّافِرِينَ عَلَى دَفْعِهِمْ وَإِخْمَادِ قَوْلِهِمْ ; لَا لِأَنَّ نُفُورَ النَّافِرِينَ عَنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ وَلَا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ أَوْ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَوْ بِبَدِيهَتِهِ فَسَادُهُ . هَذَا لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ النفاة أَهْلِ النَّظَرِ يَدَّعِيهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِ الْمُثْبَتَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْغُلُوِّ مَا فِيهَا . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مُجَرَّدَ نُفُورِ النَّافِرِينَ أَوْ مَحَبَّةِ الْمُوَافِقِينَ : لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ وَلَا فَسَادِهِ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِهُدَى مِنْ اللَّهِ بَلْ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ . فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْإِنْسَانِ لِمَا يَهْوَاهُ هُوَ أَخْذُ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَرَدُّ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الَّذِي يُبْغِضُهُ بِلَا هُدًى مِنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وَقَالَ : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى لداود : { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } . فَمَنْ اتَّبَعَ أَهْوَاءَ النَّاسِ بَعْدَ الْعِلْمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَبَعْدَ هُدَى اللَّهِ الَّذِي بَيَّنَهُ لِعِبَادِهِ : فَهُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ . وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالتَّفَرُّقِ - الْمُخَالِفِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - أَهْلَ الْأَهْوَاءِ : حَيْثُ قَبِلُوا مَا أَحَبُّوهُ وَرَدُّوا مَا أَبْغَضُوهُ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ عَنْ أَبِي الْفَرَجِ : " وَكَأَنَّهُمْ يُخَاطِبُونَ الْأَطْفَالَ " فَلَمْ تُخَاطِبْ الْحَنَابِلَةُ إلَّا بِمَا وَرَدَ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ الَّذِينَ هُمْ أَعْرَفُ بِاَللَّهِ وَأَحْكَامِهِ وَسَلَّمْنَا لَهُمْ أَمْرَ الشَّرِيعَةِ وَهُمْ قُدْوَتُنَا فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْ اللَّهِ وَشَرْعِهِ . وَقَدْ أَنْصَفَ مَنْ أَحَالَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ شاقق مَنْ خَرَجَ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ وَادَّعَى أَنَّ غَيْرَهُمْ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْهُمْ أَوْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا وَكَتَمُوا وَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مَا أَخْبَرُوا بِهِ أَوْ أَنَّ عَقْلَ غَيْرِهِمْ فِي ( بَابِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ وَأَعْلَمُ مِمَّا نَقَلُوهُ وَعَقَلُوهُ وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ . { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } .