بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا ؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ : هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ ؟ .
ثُمَّ إنَّ مِنْ عَجِيبِ الْأَمْرِ : أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُدَّعِينَ لِحَقَائِقِ الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَحْتَجُّ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ أَوْ مُجْمَلٍ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَكُلَّمَا وَجَدَ أَثَرًا فِيهِ إجْمَالٌ نَزَّلَهُ عَلَى رَأْيِهِ فَيَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِالْمَكْذُوبِ مِثْلِ الْمَكْذُوبِ الْمَنْسُوبِ إلَى عُمَرَ كُنْت كَالزِّنْجِيِّ وَمِثْلُ مَا يَرْوُونَهُ مِنْ " سِرِّ الْمِعْرَاجِ " وَمَا يَرْوُونَهُ مِنْ " أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ سَمِعُوا الْمُنَاجَاةَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ الرَّسُولُ . فَلَمَّا نَزَلَ الرَّسُولُ أَخْبَرُوهُ فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ سَمِعْتُمْ ؟ فَقَالُوا : كُنَّا نَسْمَعُ الْخِطَابَ " . حَتَّى أَنِّي لَمَّا بَيَّنْت لِطَائِفَةِ - تمشيخوا وَصَارُوا قُدْوَةً لِلنَّاسِ - : أَنَّ هَذَا كَذِبٌ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ قَطُّ . قُلْت : وَيُبَيِّنُ لَك ذَلِكَ أَنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ بِمَكَّةَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالصُّفَّةُ إنَّمَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ فَمِنْ أَيْنَ كَانَ بِمَكَّةَ أَهْلُ صُفَّةٍ ؟ . وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ قَاتَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا انْتَصَرُوا وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مَعَ اللَّهِ لِيَحْتَجُّوا بِذَلِكَ عَلَى مُتَابَعَةِ الْوَاقِعِ سَوَاءٌ كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ أَوْ مَعْصِيَةً وَلِيَجْعَلُوا حُكْمَ دِينِهِ هُوَ مَا كَانَ كَمَا قَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا } وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ كَثِيرَةٌ . وَأَمَّا الْمُجْمَلَاتُ : فَمِثْلُ احْتِجَاجِهِمْ بِنَهْيِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَنْ ذِكْرِ بَعْضِ خَفِيِّ الْعِلْمِ كَقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟ " وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : " مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا بِحَدِيثِ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ " وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ : " مَا يُؤَمِّنُك أَنِّي لَوْ أَخْبَرْتُك بِتَفْسِيرِهَا كَفَرْت وَكُفْرُك بِهَا تَكْذِيبُك بِهَا " . وَهَذِهِ الْآثَارُ حَقٌّ لَكِنْ يُنَزِّلُ كُلٌّ مِنْهُمْ ذَاكَ الَّذِي لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ هُوَ مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْحَقَائِقِ الَّتِي إذَا كُشِفَتْ وُجِدَتْ مِنْ الْبَاطِلِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ حَتَّى إنَّ أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ فِي مِنْهَاجِ الْقَاصِدِينَ " وَغَيْرِهِ هُوَ وَأَمْثَالُهُ تَمَثَّلَ بِمَا يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : يَا رُبَّ جَوْهَرِ عِلْمٍ لَوْ أَبُوحُ بِهِ لَقِيلَ لِي : أَنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْوَثَنَا وَلَاسْتَحَلَّ رِجَالٌ مُسْلِمُونَ دَمِي يَرَوْنَ أَقْبَحَ مَا يَأْتُونَهُ حَسَنَا فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ طُرُقَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ مِنْ التَّحْقِيقِ وَعُلُومِ الْأَسْرَارِ مَا خَرَجُوا بِهِ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَزَعَمُوا أَنَّ تِلْكَ الْعُلُومَ الدِّينِيَّةَ أَوْ الْكَوْنِيَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ فَآمَنُوا بِمُجْمَلِهَا وَمُتَشَابِهِهَا وَأَنَّهُمْ مُنِحُوا مِنْ حَقَائِقِ الْعِبَادَاتِ وَخَالِصِ الدِّيَانَاتِ مَا لَمْ يُمْنَحْ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ حُفَّاظُ الْإِسْلَامِ وَبُدُورُ الْمِلَّةِ وَلَمْ يَتَجَرَّءُوا عَلَيْهَا بِرَدِّ وَتَكْذِيبٍ مَعَ ظُهُورِ الْبَاطِلِ فِيهَا تَارَةً . وَخَفَائِهِ أُخْرَى . فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَقْلَ وَالدِّينَ يَقْتَضِيَانِ أَنَّ جَانِبَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ أَحَقُّ بِكُلِّ تَحْقِيقٍ وَعِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ وَإِحَاطَةٍ بِأَسْرَارِ الْأُمُورِ وَبَوَاطِنهَا . هَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ مُؤْمِنٌ . وَنَحْنُ الْآنُ فِي مُخَاطَبَةِ مَنْ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ أَخَصُّهُمْ بِالرَّسُولِ وَأَعْلَمُهُمْ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَمَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ وَبَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِأَصْحَابِهِ وَسِيرَتِهِ وَأَيَّامِهِ وَأَعْظَمُهُمْ بَحْثًا عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ نَقَلَتِهِ وَأَعْظَمُهُمْ تَدَيُّنًا بِهِ وَاتِّبَاعًا لَهُ وَاقْتِدَاءً بِهِ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ حِفْظًا لَهُ وَمَعْرِفَةً بِصَحِيحِهِ وَسَقِيمِهِ وَفِقْهًا فِيهِ وَفَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ إيَّاهُ فِي مَعَانِيهِ وَإِيمَانًا وَتَصْدِيقًا . وَطَاعَةً وَانْقِيَادًا وَاقْتِدَاءً وَاتِّبَاعًا مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ عَقْلِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ وَتَمْيِيزِهِمْ وَعَظِيمِ مُكَاشَفَاتِهِمْ وَمُخَاطَبَاتِهِمْ . فَإِنَّهُمْ أَسَدُّ النَّاسِ نَظَرًا وَقِيَاسًا وَرَأْيًا وَأَصْدَقُ النَّاسِ رُؤْيَا وَكَشْفًا . أَفَلَا يَعْلَمُ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ وَدِينٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِالصِّدْقِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالتَّحْقِيقِ مِمَّنْ يُخَالِفُهُمْ وَأَنَّ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلُومِ مَا يُنْكِرُهَا الْجَاهِلُ وَالْمُبْتَدِعُ وَأَنَّ الَّذِي عِنْدَهُمْ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ وَأَنَّ الْجَاهِلَ بِأَمْرِهِمْ وَالْمُخَالِفَ لَهُمْ هُوَ الَّذِي مَعَهُ مِنْ الْحَشْوِ مَا مَعَهُ وَمِنْ الضَّلَالِ كَذَلِكَ . وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ شَرْحُهُ . فَإِنَّ النُّفُوسَ لَهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَا لَا يَحْصُرُهُ إلَّا ذُو الْجَلَالِ . وَالْأَقْوَالُ إخبارات وَإِنْشَاءَاتٌ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَصْدَقُهُ كِتَابُ اللَّهِ . خَبَرُهُ أَصْدَقُ الْخَبَرِ وَبَيَانُهُ أَوْضَحُ الْبَيَانِ وَأَمْرُهُ أَحْكَمُ الْأَمْرِ { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ }