بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا ؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ : هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ ؟ .
وَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ عَقِبَ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَلُّدِ . وَقَالَ الْمُنْكِرُونَ لِلتَّوَلُّدِ : بَلْ ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى . وَالنَّظَرُ إمَّا مُتَضَمِّنٌ لِلْعِلْمِ وَإِمَّا مُوجِبٌ لَهُ . وَهَذَا يَنْصُرُهُ الْمُنْتَسِبُونَ لِلسُّنَّةِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَتْ الْمُتَفَلْسِفَةُ : بَلْ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِطَرِيقِ الْفَيْضِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عِنْدَ اسْتِعْدَادِ النَّفْسِ لِقَبُولِ الْفَيْضِ . وَقَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ هُوَ " جِبْرِيلُ " . فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِينَ " إنَّ ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ " فَهُوَ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ مُعَلِّمُ كُلِّ عِلْمٍ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ; لَكِنَّ هَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِنَفْسِ السَّبَبِ الْخَاصِّ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالتَّوَلُّدِ : فَبَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ [ فَإِنْ ] كَانَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْعِلْمَ الْمُتَوَلِّدَ هُوَ حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ ; [ فَذَلِكَ ] بَاطِلٌ قَطْعًا وَلَكِنْ هُوَ حَاصِلٌ بِأَمْرَيْنِ : قُدْرَةُ الْعَبْدِ وَالسَّبَبُ الْآخَرُ كَالْقُوَّةِ الَّتِي فِي السَّهْمِ وَالْقَبُولِ الَّذِي فِي الْمَحَلِّ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّظَرَ هُوَ بِسَبَبِ وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِيمَا بِهِ يَتِمُّ حُصُولُ الْعِلْمِ . وَأَمَّا زَعْمُ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَنَّهُ بِالْعَقْلِ الْفَعَّالِ : فَمِنْ الْخُرَافَاتِ الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا . وَأَبْطَلُ مِنْ ذَلِكَ زَعْمُهُمْ : أَنَّ ذَلِكَ هُوَ جِبْرِيلُ وَزَعْمُهُمْ : أَنَّ كُلَّ مَا يَحْصُلُ فِي عَالَمِ الْعَنَاصِرِ مِنْ الصُّوَرِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَكَمَالَاتِهَا : فَهُوَ مِنْ فَيْضِهِ وَبِسَبَبِهِ فَهُوَ مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ . وَلَكِنَّ إضَافَتَهُمْ ذَلِكَ إلَى أُمُورٍ رُوحَانِيَّةٍ : صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِمَلَائِكَتِهِ الَّتِي هِيَ السُّفَرَاءُ فِي أَمْرِهِ وَلَفْظُ " الْمَلَكِ " يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَبِذَلِكَ أَخْبَرَتْ الْأَنْبِيَاءُ وَقَدْ شَهِدَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَلَائِكَةِ تَخْلِيقِ الْجَنِينِ وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا تَخْصِيصُ رُوحٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلٍ بِفَلَكِ الْقَمَرِ يَكُونُ هُوَ رَبَّ هَذَا الْعَالَمِ فَهَذَا بَاطِلٌ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمَبْدَأَ فِي شُعُورِ النَّفْسِ وَحَرَكَتِهَا : هُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ الشَّيَاطِينُ فَالْمَلَكُ يُلْقِي التَّصْدِيقَ بِالْحَقِّ وَالْأَمْرَ بِالْخَيْرِ وَالشَّيْطَانُ يُلْقِي التَّكْذِيبَ بِالْحَقِّ وَالْأَمْرَ بِالشَّرِّ . وَالتَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ مَقْرُونَانِ بِنَظَرِ الْإِنْسَانِ ; كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مَقْرُونَانِ بِإِرَادَتِهِ . فَإِذَا كَانَ النَّظَرُ فِي دَلِيلٍ هَادٍ - كَالْقُرْآنِ - وَسَلِمَ مِنْ مُعَارَضَاتِ الشَّيْطَانِ . تَضَمَّنَ ذَلِكَ النَّظَرُ الْعِلْمَ وَالْهُدَى . وَلِهَذَا أُمِرَ الْعَبْدُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ . وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ فِي دَلِيلٍ مُضِلٍّ وَالنَّاظِرُ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ ; بِأَنْ تَكُونَ مُقَدِّمَتَاهُ أَوْ إحْدَاهُمَا مُتَضَمِّنَةً لِلْبَاطِلِ أَوْ تَكُونَ الْمُقَدِّمَاتُ صَحِيحَةً لَكِنَّ التَّأْلِيفَ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ : فَإِنَّهُ يَصِيرُ فِي الْقَلْبِ بِذَلِكَ اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ وَهُوَ غَالِبُ شُبُهَاتِ أَهْلِ الْبَاطِلِ الْمُخَالِفِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ والمتكلمين وَنَحْوِهِمْ . فَإِذَا كَانَ النَّاظِرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَنْظُورٍ فِيهِ . وَالنَّظَرُ فِي نَفْسِ الْمُتَصَوَّرِ الْمَطْلُوبِ حُكْمُهُ لَا يُفِيدُ عِلْمًا ; بَلْ رُبَّمَا خَطَرَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّظَرِ أَنْوَاعٌ مِنْ الشُّبُهَاتِ ; يَحْسَبُهَا أَدِلَّةً لِفَرْطِ تَعَطُّشِ الْقَلْبِ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَتَصْدِيقِ ذَلِكَ التَّصَوُّرِ . وَأَمَّا النَّظَرُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ : فَهُوَ مَا كَانَ فِي دَلِيلٍ هَادٍ . وَالدَّلِيلُ الْهَادِي - عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ - هُوَ " كِتَابُ اللَّهِ " وَ " سُنَّةُ نَبِيِّهِ " فَإِنَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ نَوْعَيْ النَّظَرِ : هُوَ مَا يُفِيدُ وَيَنْفَعُ وَيُحَصِّلُ الْهُدَى وَهُوَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ . فَإِذَا أَرَادَ النَّظَرَ وَالِاعْتِبَارَ فِي الْأَدِلَّةِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَطْلُوبٍ فَذَلِكَ النَّظَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَتَدَبُّرُهُ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } . وَأَمَّا النَّظَرُ فِي مَسْأَلَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَقَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ ; لِطَلَبِ حَكَمِهَا وَالتَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ فِيهَا ; وَالْعَبْدُ لَا يَعْرِفُ مَا يَدُلُّهُ عَلَى هَذَا أَوْ هَذَا : فَمُجَرَّدُ هَذَا النَّظَرِ لَا يُفِيدُ . بَلْ قَدْ يَقَعُ لَهُ تَصْدِيقَاتٌ يَحْسَبُهَا حَقًّا وَهِيَ بَاطِلٌ . وَذَلِكَ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ . وَقَدْ يَقَعُ لَهُ تَصْدِيقَاتٌ تَكُونُ حَقًّا وَذَلِكَ مِنْ إلْقَاءِ الْمَلَكِ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ النَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ الْهَادِي وَهُوَ الْقُرْآنُ فَقَدْ يَضَعُ الْكَلِمَ مَوَاضِعَهُ وَيَفْهَمُ مَقْصُودَ الدَّلِيلِ فَيَهْتَدِي بِالْقُرْآنِ وَقَدْ لَا يَفْهَمُهُ أَوْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَيَضِلَّ بِهِ وَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا } وَقَالَ : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } وَقَالَ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ } وَقَالَ : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } وَقَالَ : { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } . فَالنَّاظِرُ فِي الدَّلِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَرَائِي لِلْهِلَالِ قَدْ يَرَاهُ وَقَدْ لَا يَرَاهُ لعشى فِي بَصَرِهِ وَكَذَلِكَ أَعْمَى الْقَلْبِ . وَأَمَّا النَّاظِرُ فِي الْمَسْأَلَةِ : فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْئَيْنِ : إلَى أَنْ يَظْفَرَ بِالدَّلِيلِ الْهَادِي وَإِلَى أَنْ يَهْتَدِيَ بِهِ وَيَنْتَفِعَ . فَأَمَرَهُ الشَّرْعُ بِمَا يُوجِبُ أَنْ يُنْزِلَ عَلَى قَلْبِهِ الْأَسْبَابَ الْهَادِيَةَ وَيَصْرِفَ عَنْهُ الْأَسْبَابَ الْمُعَوِّقَةَ : وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْغَفْلَةُ عَنْهُ . فَإِنَّ الشَّيْطَانَ وَسْوَاسٌ خَنَّاسٌ فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ خُنِّسَ وَإِذَا غَفَلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وُسْوِسَ . وَ " ذِكْرُ اللَّهِ " يُعْطِي الْإِيمَانَ وَهُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَهُوَ مُعَلِّمُ كُلِّ عِلْمٍ وَوَاهِبُهُ فَكَمَا أَنَّ نَفْسَهُ أَصْلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مَوْجُودٍ فَذِكْرُهُ وَالْعِلْمُ بِهِ أَصْلٌ لِكُلِّ عِلْمٍ وَذِكْرُهُ فِي الْقَلْبِ . وَالْقُرْآنُ يُعْطِي الْعِلْمَ الْمُفَصَّلَ فَيَزِيدُ الْإِيمَانَ كَمَا قَالَ " جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ البجلي وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ : تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا " وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِ اللَّهِ ; فَتَضَمَّنَ هَذَا الْأَمْرَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَقَالَ : { بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ خَلَقَ أَكْرَمَ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَهُوَ الْإِنْسَانُ وَأَنَّهُ الْمُعَلِّمُ لِلْعِلْمِ عُمُومًا وَخُصُوصًا لِلْإِنْسَانِ وَذَكَرَ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ الَّذِي هُوَ آخِرُ الْمَرَاتِبِ لِيَسْتَلْزِمَ تَعْلِيمَ الْقَوْلِ وَتَعْلِيمَ الْعِلْمِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ : أَنَّ الْعَبْدَ مُفْتَقِرٌ إلَى مَا يَسْأَلُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْهُدَى طَالِبٌ سَائِلٌ فَبِذِكْرِ اللَّهِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ يَهْدِيهِ اللَّهُ وَيَدُلُّهُ كَمَا قَالَ : " { يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ } " وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " { اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا أَخْتَلِفُ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } " . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ الطَّالِبَ لِلْعِلْمِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي دَلِيلٍ يُفِيدُهُ الْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَمَتَى كَانَ الْعِلْمُ مُسْتَفَادًا بِالنَّظَرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ النَّاظِرِ مِنْ الْعِلْمِ الْمَذْكُورِ الثَّابِتِ فِي قَلْبِهِ مَا لَا يَحْتَاجُ حُصُولُهُ إلَى نَظَرٍ ; فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْلُومُ أَصْلًا وَسَبَبًا لِلتَّفَكُّرِ الَّذِي يَطْلُبُ بِهِ مَعْلُومًا آخَرَ وَلِهَذَا كَانَ الذِّكْرُ مُتَعَلِّقًا بِاَللَّهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْحَقُّ الْمَعْلُومُ وَكَانَ التَّفَكُّرُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } . وَقَدْ جَاءَ الْأَثَرُ : " { تَفَكَّرُوا فِي الْمَخْلُوقِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ } " ; لِأَنَّ التَّفْكِيرَ وَالتَّقْدِيرَ يَكُونُ فِي الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ وَالْمَقَايِيسِ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْأُمُورِ الْمُتَشَابِهَةِ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ . وَأَمَّا الْخَالِقُ - جَلَّ جَلَالُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَلَيْسَ لَهُ شَبِيهٌ وَلَا نَظِيرٌ فَالتَّفَكُّرُ الَّذِي مَبْنَاهُ عَلَى الْقِيَاسِ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ فَيَذْكُرُهُ الْعَبْدُ . وَبِالذِّكْرِ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ : يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ ; لَا تُنَالُ بِمُجَرَّدِ التَّفْكِيرِ وَالتَّقْدِيرِ - أَعْنِي مِنْ الْعِلْمِ بِهِ نَفْسِهِ ; فَإِنَّهُ الَّذِي لَا تَفْكِيرَ فِيهِ . فَأَمَّا الْعِلْمُ بِمَعَانِي مَا أَخْبَرَ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَيَدْخُلُ فِيهَا التَّفْكِيرُ وَالتَّقْدِيرُ كَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَوُّفِ يَأْمُرُونَ بِمُلَازَمَةِ الذِّكْرِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ هُوَ بَابُ الْوُصُولِ إلَى الْحَقِّ . وَهَذَا حَسَنٌ إذَا ضَمُّوا إلَيْهِ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّبَاعَ ذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ يَأْمُرُونَ بِالتَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ هُوَ الطَّرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ . وَالنَّظَرُ صَحِيحٌ إذَا كَانَ فِي حَقٍّ وَدَلِيلٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَكُلٌّ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فِيهَا حَقٌّ لَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى الْحَقِّ الَّذِي فِي الْأُخْرَى وَيَجِبُ تَنْزِيهُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَمَّا دَخَلَ فِيهَا مِنْ الْبَاطِلِ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ ; وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; وَبَيَّنَّا طُرُقَ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَالذِّكْرِ ; وَطَرِيقَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ; وَمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ مَقْبُولٍ وَمَرْدُودٍ ; وَبَيَّنَّا مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّسَالَةُ مِنْ الطَّرِيقِ الْكَامِلَةِ الْجَامِعَةِ لِكُلِّ حَقٍّ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحِسٌّ بِأَنَّهُ عَالِمٌ : يَجِدُ ذَلِكَ وَيَعْرِفُهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ أَحَدٍ ; كَمَا يُحِسُّ بِغَيْرِ ذَلِكَ . وَحُصُولُ الْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ كَحُصُولِ الطَّعَامِ فِي الْجِسْمِ فَالْجِسْمُ يُحِسُّ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ; وَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ تُحِسُّ بِمَا يَتَنَزَّلُ إلَيْهَا مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ طَعَامُهَا وَشَرَابُهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ كُلَّ آدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ وَإِنَّ مَأْدُبَةَ اللَّهِ هِيَ الْقُرْآنُ } " وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ : كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَسَقَى النَّاسُ وَزَرَعُوا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْت بِهِ } " . فَضَرَبَ مَثَلَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الْقُلُوبِ بِالْمَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الْأَرْضِ . وَكَمَا أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً مُوكَلَةً بِالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ فَلَهُ مَلَائِكَةٌ مُوكَلَةٌ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ . هَذَا رِزْقُ الْقُلُوبِ وَقُوتُهَا وَهَذَا رِزْقُ الْأَجْسَادِ وَقُوتُهَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قَالَ : " إنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّفَقَةِ نَفَقَةَ الْعِلْمِ " أَوْ نَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ وَفِي أَثَرٍ آخَرَ : " { نِعْمَتْ الْعَطِيَّةُ وَنِعْمَتْ الْهَدِيَّةُ : الْكَلِمَةُ مِنْ الْخَيْرِ يَسْمَعُهَا الرَّجُلُ فَيُهْدِيهَا إلَى أَخ لَهُ مُسْلِمٍ } " . وَفِي أَثَرٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : " { مَا تَصَدَّقَ عَبْدٌ بِصَدَقَةِ أَفْضَلَ مِنْ مَوْعِظَةٍ يَعِظُ بِهَا إخْوَانًا لَهُ مُؤْمِنِينَ فَيَتَفَرَّقُونَ وَقَدْ نَفَعَهُمْ اللَّهُ بِهَا } " أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا الْكَلَامَ . وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : " { أَلَا أُهْدِي لَك هَدِيَّةً ؟ فَذَكَرَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } " . وَرَوَى ابْنُ ماجه فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ عِلْمًا ثُمَّ يُعَلِّمَهُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ } " وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : " عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ طَلَبَهُ عِبَادَةٌ وَتَعَلُّمَهُ لِلَّهِ حَسَنَةٌ وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ " . وَلِهَذَا كَانَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ وَاَللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ لِكُلِّ شَيْءٍ . وَعَكْسُهُ كَاتِمُوا الْعِلْمِ فَإِنَّهُمْ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : " إذَا كَتَمَ النَّاسُ الْعِلْمَ . فَعُمِلَ بِالْمَعَاصِي احْتَبَسَ الْقَطْرُ فَتَقُولُ الْبَهَائِمُ : اللَّهُمَّ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ فَإِنَّا مُنِعْنَا الْقَطْرَ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ " . وَإِذَا كَانَ عِلْمُ الْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا مَرْجِعَهُ إلَى وُجُودِهِ ذَلِكَ وَإِحْسَاسِهِ فِي نَفْسِهِ بِذَلِكَ - وَهَذَا أَمْرٌ مَوْجُودٌ بِالضَّرُورَةِ - لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُخْبِرُوا عَمَّا فِي نُفُوسِ النَّاسِ : بِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلْمِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَإِنَّ عَدَمَ وُجُودِهِمْ مِنْ نُفُوسِهِمْ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُخْبِرُونَ يُخْبِرُونَ عَنْ الْيَقِينِ الَّذِي فِي أَنْفُسِهِمْ ; عَمَّنْ لَا يَشُكُّونَ فِي عِلْمِهِ وَصِدْقِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِمَا يَقُولُ . وَهَذَا حَالُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَحَمَلَةِ الْحُجَّةِ فَإِنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْيَقِينِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ كَمَا فِي الْحِكَايَةِ الْمَحْفُوظَةِ عَنْ " نَجْمِ الدِّينِ الْكُبْرَى لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ مُتَكَلِّمَانِ أَحَدُهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرازي . وَالْآخَرُ : مِنْ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَا : يَا شَيْخُ بَلَغَنَا : أَنَّك تَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ . فَقَالَ : نَعَمْ أَنَا أَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ . فَقَالَا : كَيْفَ يُمْكِنُ ذَلِكَ وَنَحْنُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى السَّاعَةِ نَتَنَاظَرُ فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدُنَا أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْآخَرِ دَلِيلًا ؟ - وَأَظُنُّ الْحِكَايَةَ فِي تَثْبِيتِ الْإِسْلَامِ - فَقَالَ : مَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ . وَلَكِنْ أَنَا أَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَقَالَا : صِفْ لَنَا عِلْمَ الْيَقِينِ فَقَالَ : عِلْمُ الْيَقِينِ - عِنْدَنَا - وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَنْ رَدِّهَا فَجَعَلَا يَقُولَانِ : وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَنْ رَدِّهَا وَيَسْتَحْسِنَانِ هَذَا الْجَوَابَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ طَرِيقَ أَهْلِ الْكَلَامِ تَقْسِيمُ الْعُلُومِ إلَى ضَرُورِيٍّ وكسبي أَوْ بَدِيهِيٍّ وَنَظَرِيٍّ . فَالنَّظَرِيُّ الكسبي : لَا بُدَّ أَنْ يُرَدَّ إلَى مُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ أَوْ بَدِيهِيَّةٍ فَتِلْكَ لَا تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ . وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ : هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ نَفْسَ الْمَخْلُوقِ لُزُومًا لَا يُمْكِنُهُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ فَالْمَرْجِعُ فِي كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا إلَى أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ . فَأَخْبَرَ الشَّيْخُ : أَنَّ عُلُومَهُمْ ضَرُورِيَّةٌ وَأَنَّهَا تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ عَلَى وَجْهٍ تَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهِ فَقَالَا لَهُ : مَا الطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : تَتْرُكَانِ مَا أَنْتُمَا فِيهِ وَتَسْلُكَانِ مَا أَمَرَكُمَا اللَّهُ بِهِ مِنْ الذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ . فَقَالَ الرازي : أَنَا مَشْغُولٌ عَنْ هَذَا . وَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ : أَنَا قَدْ احْتَرَقَ قَلْبِي بِالشُّبُهَاتِ وَأُحِبُّ هَذِهِ الْوَارِدَاتِ فَلَزِمَ الشَّيْخَ مُدَّةً ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَحَلِّ عِبَادَتِهِ وَهُوَ يَقُولُهُ : وَاَللَّهِ يَا سَيِّدِي مَا الْحَقُّ إلَّا فِيمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُشَبِّهَةُ - يَعْنِي : الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ ; فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يُسَمُّونَ الصفاتية مُشَبِّهَةً - وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ قَلْبِهِ أَنَّ رَبَّ الْعَالَمِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَمَيَّزَ عَنْ الْعَالَمِ وَأَنَّ يَكُونَ بَائِنًا مِنْهُ لَهُ صِفَاتٌ تَخْتَصُّ بِهِ وَأَنَّ هَذَا الرَّبَّ الَّذِي تَصِفُهُ الجهمية إنَّمَا هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ . وَهَذَا مَوْضِعُ الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ الشَّيْخِ الْعَارِفِ أَبِي جَعْفَرٍ الهمداني لِأَبِي الْمَعَالِي الجويني لَمَّا أَخَذَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ : كَانَ اللَّهُ وَلَا عَرْشَ فَقَالَ : يَا أُسْتَاذُ دَعْنَا مِنْ ذِكْرِ الْعَرْشِ - يَعْنِي : لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا جَاءَ فِي السَّمْعِ - أَخْبِرْنَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا فَإِنَّهُ مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ " يَا اللَّهُ " إلَّا وَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا تَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً فَكَيْفَ نَدْفَعُ هَذِهِ الضَّرُورَةَ عَنْ قُلُوبِنَا ؟ قَالَ : فَلَطَمَ أَبُو الْمَعَالِي عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ : حَيَّرَنِي الهمداني حَيَّرَنِي الهمداني وَنَزَلَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ عِلْمٌ بِالسَّمْعِ . الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ . وَأَمَّا كَوْنُهُ عَالِيًا عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ بَائِنًا مِنْهُمْ : فَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ بَنِي آدَمَ . وَكُلُّ مَنْ كَانَ بِاَللَّهِ أَعْرَفَ وَلَهُ أَعْبَدَ وَدُعَاؤُهُ لَهُ أَكْثَرَ وَقَلْبُهُ لَهُ أَذْكَرَ كَانَ عِلْمُهُ الضَّرُورِيُّ بِذَلِكَ أَقْوَى وَأَكْمَلَ فَالْفِطْرَةُ مُكَمَّلَةٌ بِالْفِطْرَةِ الْمُنْزَلَةِ فَإِنَّ الْفِطْرَةَ تُعْلِمُ الْأَمْرَ مُجْمَلًا وَالشَّرِيعَةُ تُفَصِّلُهُ وَتُبَيِّنُهُ وَتَشْهَدُ بِمَا لَا تَسْتَقِلُّ الْفِطْرَةُ بِهِ . فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .