بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا ؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ : هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ ؟ .
( وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُمْ أَتْبَاعُ السَّلَفِ فَيَقُولُونَ : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ الرَّسُولُ يَعْرِفُ مَعْنَى مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَلَا أَصْحَابُهُ يَعْلَمُونَ مَعْنَى ذَلِكَ بَلْ لَازِمُ قَوْلِهِمْ : أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَعْنَى مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ وَاَلَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ مَذْهَبَ السَّلَفِ يَقُولُونَ : إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ النُّصُوصِ بَلْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي الرَّسُولِ . وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَبْطَلْ الْأَقْوَالِ وَمِمَّا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا فَهِمُوهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } وَيَظُنُّونَ أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمُّونَهُ هُمْ تَأْوِيلًا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ : تَجْرِي النُّصُوصُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَتَأْوِيلُهَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَيُرِيدُونَ بِالتَّأْوِيلِ : مَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ . وَطَائِفَةٌ يُرِيدُونَ بِالظَّاهِرِ أَلْفَاظَ النُّصُوصِ فَقَطْ وَالطَّائِفَتَانِ غالطتان فِي فَهْمِ الْآيَةِ . وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ " التَّأْوِيلِ " قَدْ صَارَ بِسَبَبِ تَعَدُّدِ الِاصْطِلَاحَاتِ لَهُ ثَلَاثُ مَعَانٍ : - ( أَحَدُهَا : أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ حَقِيقَةُ مَا يَئُولُ إلَيْهِ الْكَلَامُ وَإِنْ وَافَقَ ظَاهِرَهُ . وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُرَادُ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } وَمِنْهُ { قَوْلُ عَائِشَةَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } . ( وَالثَّانِي يُرَادُ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ : " التَّفْسِيرُ " وَهُوَ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ - إمَامُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ - : إنَّ " الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ " يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَفْسِيرَهُ وَبَيَانَ مَعَانِيهِ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ . ( وَالثَّالِثُ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ " التَّأْوِيلِ " : صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ لِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ . وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَكُونُ إلَّا مُخَالِفًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَيُبَيِّنُهُ . وَتَسْمِيَةُ هَذَا تَأْوِيلًا لَمْ يَكُنْ فِي عُرْفِ السَّلَفِ وَإِنَّمَا سَمَّى هَذَا وَحْدَهُ تَأْوِيلًا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْخَائِضِينَ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَالْكَلَامِ وَظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } يُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ صَارُوا فِي هَذَا التَّأْوِيلِ عَلَى طَرِيقَيْنِ : قَوْمٌ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَقَوْمٌ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَهُ وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ . فَإِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ - أَوْ أَكْثَرِهَا وَعَامَّتِهَا - مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ . وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى ذَمِّهِ وَصَاحُوا بِأَهْلِهِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَرُمُوا فِي آثَارِهِمْ بِالشُّهُبِ . وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ وَسَمَّاهُ : " الرَّدُّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ والجهمية فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ " فَعَابَ أَحْمَدُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ مَا هُوَ مَعْنَاهُ . وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ : إنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَعَانِيَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا وَلَا قَالُوا : إنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ لَمْ يَعْرِفُوا تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ . كَيْفَ ؟ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِتَدَبُّرِ كِتَابِهِ قَالَ تَعَالَى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } وَلَمْ يَقُلْ : بَعْضَ آيَاتِهِ وَقَالَ : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } وَقَالَ : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي النُّصُوصِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَتَدَبَّرَ النَّاسُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَأَنَّهُ جَعَلَهُ نُورًا وَهُدًى لِعِبَادِهِ وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ - عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - أَنَّهُمْ قَالُوا : " كُنَّا إذَا تَعَلَّمْنَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ نُجَاوِزْهَا حَتَّى نَتَعَلَّمَ مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ " قَالُوا : " فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا " وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مَنْ يَقُولُ فِي الرَّسُولِ وَبَيَانُهُ لِلنَّاسِ مِمَّا هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَاحِدَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ فِي السَّلَفِ ؟ حَتَّى يَدَّعِيَ اتِّبَاعَهُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ وَالسَّلَفِ عِنْدَ نَفْسِهِ وَعِنْدَ طَائِفَتِهِ فَإِنَّهُ قَدْ أَظْهَرَ مِنْ قَوْلِ النفاة مَا كَانَ الرَّسُولُ يَرَى عَدَمَ إظْهَارِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَسَادِ النَّاسِ . وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فَلَا . وَقَوْلُ النفاة بَاطِلٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُتَّبِعُوهُ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ بَلْ مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَنَا عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إلَّا هَالِكٌ . وَأَخْبَرَنَا أَنَّ : " كُلَّ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ " . وَرُبَّمَا أَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ بَيْتَ مَجْنُونِ بَنِي عَامِرٍ : وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلًا لِلَيْلَى وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بذاكا فَمَنْ قَالَ مِنْ الشِّعْرِ مَا هُوَ حِكْمَةٌ أَوْ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ مِنْ الشِّعْرِ فِيمَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ حَقٌّ كَانَ قَرِيبًا . أَمَّا إثْبَاتُ الدَّعْوَى بِمُجَرَّدِ كَلَامٍ مَنْظُومٍ مِنْ شِعْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيُقَالُ لِصَاحِبِهِ : يَنْبَغِي أَنْ تُبَيِّنَ أَنَّ السَّلَفَ لَا يُقِرُّونَ بِمَنْ انتحلتهم . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا ذَكَرَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُولُونَ عَنْ السَّلَفِ مَا لَمْ يَقُولُوهُ وَلَا يَنْقُلُهُ عَنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِحَالِهِمْ وَعَدْلٌ فِيمَا نَقَلَ فَإِنَّ النَّاقِلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَدْلًا . فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ أَحَدًا نَقَلَ مَذْهَبَ السَّلَفِ كَمَا يَذْكُرُهُ ; فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِآثَارِ السَّلَفِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْخَطِيبِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ مَا يُعَدُّونَ بِهِ مِنْ عَوَامِّ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ فَضْلًا عَنْ خَوَاصِّهَا وَلَمْ يَكُنْ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَعْرِفُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا وَأَحَادِيثَهُمَا إلَّا بِالسَّمَاعِ كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ الْعَامَّةُ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَوَاتِرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْمُفْتَرَى الْمَكْذُوبِ وَكُتُبُهُمْ أَصْدَقُ شَاهِدٍ بِذَلِكَ فَفِيهَا عَجَائِبُ . وَتَجِدُ عَامَّةَ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ مِنْهَاجِ السَّلَفِ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ إمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ وَإِمَّا قَبْلَ الْمَوْتِ وَالْحِكَايَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ . هَذَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ : نَشَأَ فِي الِاعْتِزَالِ أَرْبَعِينَ عَامًا يُنَاظِرُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَصَرَّحَ بِتَضْلِيلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَالَغَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ . وَهَذَا أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ [ مَعَ فَرْطِ ذَكَائِهِ وَتَأَلُّهِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَسُلُوكِهِ طَرِيقَ الزُّهْدِ وَالرِّيَاضَةِ وَالتَّصَوُّفِ يَنْتَهِي فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إلَى الْوَقْفِ وَالْحَيْرَةِ وَيُحِيلُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْكَشْفِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعَ إلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ] وَصَنَّفَ " إلْجَامَ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ " . [ وَكَذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرازي قَالَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي أَقْسَامِ اللَّذَّاتِ ] : " لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ : [ أَقْرَأُ فِي الْإِثْبَاتِ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَأَقْرَأُ فِي النَّفْيِ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ثُمَّ قَالَ : وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي ] وَكَانَ يَتَمَثَّلُ كَثِيرًا : نِهَايَةُ إقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مَنْ جُسُومِنَا وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ وَلَمْ نَسْتَفِدْ مَنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا وَهَذَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَرَكَ مَا كَانَ يَنْتَحِلُهُ وَيُقَرِّرُهُ وَاخْتَارَ مَذْهَبَ السَّلَفِ . وَكَانَ [ يَقُولُ : " يَا أَصْحَابَنَا لَا تَشْتَغِلُوا بِالْكَلَامِ فَلَوْ أَنِّي عَرَفْت أَنَّ الْكَلَامَ يَبْلُغُ بِي إلَى مَا بَلَغَ مَا اشْتَغَلْت بِهِ " وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ : " لَقَدْ خُضْت الْبَحْرَ الْخِضَمَّ وَخَلَّيْت أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ وَدَخَلْت فِيمَا نَهَوْنِي عَنْهُ . وَالْآنَ : إنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِابْنِ الجويني وَهَا أنذا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي - أَوْ قَالَ - : عَقِيدَةِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ " . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشِّهْرِسْتَانِيّ : " أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ والمتكلمين إلَّا الْحَيْرَةَ وَالنَّدَمَ " ] وَكَانَ يَنْشُدُ : لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْت الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا وَسَيَّرْت طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ فَلَمْ أَرَ إلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمٍ وَابْنُ الْفَارِضِ - مِنْ مُتَأَخِّرِي الِاتِّحَادِيَّةِ - صَاحِبُ الْقَصِيدَةِ التَّائِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ " بِنَظْمِ السُّلُوكِ " وَقَدْ نَظَمَ فِيهَا الِاتِّحَادَ نَظْمًا رَائِقَ اللَّفْظِ فَهُوَ أَخْبَثُ مَنْ لَحْمِ خِنْزِيرٍ فِي صِينِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ . وَمَا أَحْسَنَ تَسْمِيَتَهَا بِنَظْمِ الشُّكُوكِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا وَبِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ وَقَدْ نَفَقَتْ كَثِيرًا وَبَالَغَ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي تَحْسِينِهَا وَالِاعْتِدَادِ بِمَا فِيهَا مِنْ الِاتِّحَادِ - لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَنْشَدَ : إنْ كَانَ مَنْزِلَتِي فِي الْحُبِّ عِنْدَكُمْ مَا قَدْ لَقِيت فَقَدْ ضَيَّعْت أَيَّامِي أُمْنِيَّةً ظَفِرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا وَالْيَوْمَ أَحْسَبُهَا أَضْغَاثَ أَحْلَامِ