بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا ؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ : هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ ؟ .
وَإِذَا سَلِمَ ذَلِكَ فَأَعْلَمُ النَّاسِ بِالسَّابِقِينَ وَأَتْبَعُهُمْ لَهُمْ : هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ . وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِسَالَةِ عبدوس بْنِ مَالِكٍ : " أُصُولُ السُّنَّةِ عِنْدَنَا : التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَتَرْكُ الْبِدَعِ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ . وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا : آثَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَهِيَ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ أَيْ دَلَالَاتٌ عَلَى مَعْنَاهُ . وَلِهَذَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ : أَنَّ الرَّفْضَ أَسَاسُ الزَّنْدَقَةِ وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ ابْتَدَعَ الرَّفْضَ إنَّمَا كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ فَإِنَّهُ إذَا قَدَحَ فِي السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ فَقَدْ قَدَحَ فِي نَقْلِ الرِّسَالَةِ أَوْ فِي فَهْمِهَا أَوْ فِي اتِّبَاعِهَا . فَالرَّافِضَةُ تَقْدَحُ تَارَةً فِي عِلْمِهِمْ بِهَا وَتَارَةً فِي اتِّبَاعِهِمْ لَهَا - وَتُحِيلُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ وَعَلَى الْمَعْصُومِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْوُجُودِ . وَالزَّنَادِقَةُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ والنصيرية وَغَيْرِهِمْ : يَقْدَحُونَ تَارَةً فِي النَّقْلِ : وَهُوَ قَوْلُ جُهَّالِهِمْ . وَتَارَةً يَقْدَحُونَ فِي فَهْمِ الرِّسَالَةِ : وَهُوَ قَوْلُ حُذَّاقِهِمْ كَمَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَكَابِرُ الْفَلَاسِفَةِ والاتحادية وَنَحْوِهِمْ . حَتَّى كَانَ التلمساني مَرَّةً مَرِيضًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ شَخْصٌ وَمَعَهُ بَعْضُ طَلَبَةِ الْحَدِيثِ فَأَخَذَ يَتَكَلَّمُ عَلَى قَاعِدَتِهِ فِي الْفِكْرِ : أَنَّهُ حِجَابٌ وَأَنَّ الْأَمْرَ مَدَارُهُ عَلَى الْكَشْفِ وَغَرَضُهُ كَشْفُ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ فَقَالَ ذَلِكَ الطَّالِبُ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ : " أَفْضَلُ عَمَلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ : التَّفَكُّرُ ؟ " فَتَبَرَّمَ بِدُخُولِ مِثْلِ هَذَا عَلَيْهِ وَقَالَ لِلَّذِي جَاءَ بِهِ : كَيْفَ يَدْخُلُ عَلَيَّ مِثْلُ هَذَا ؟ ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرِي يَا بُنَيَّ مَا مِثْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَمْثَالِهِ ؟ مَثَلُهُمْ : مَثَلُ أَقْوَامٍ سَمِعُوا كَلَامًا وَحَفِظُوهُ لَنَا حَتَّى نَكُونَ نَحْنُ الَّذِينَ نَفْهَمُهُ وَنَعْرِفُ مُرَادَ صَاحِبِهِ وَمَثَلُ بَرِيدٍ حَمَلَ كِتَابًا مِنْ السُّلْطَانِ إلَى نَائِبِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ; فَقَدْ طَالَ عَهْدِي بِالْحِكَايَةِ حَدَّثَنِي بِهَا الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ثِقَةٌ يَعْرِفُ مَا يَقُولُ فِي هَذَا . وَكَانَ لَهُ فِي هَذِهِ الْفُنُونِ جَوَلَانٌ كَثِيرٌ . وَكَذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ : يَذْكُرُ مِنْ التَّنَقُّصِ بِالصَّحَابَةِ مَا وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ وَشِيعَتِهِ الْقَرَامِطَةِ ; حَتَّى تَجِدَهُمْ إذَا ذَكَرُوا فِي آخِرِ الْفَلْسَفَةِ حَاجَةَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ إلَى الْإِمَامَةِ عَرَّضُوا بِقَوْلِ الرَّافِضَةِ الضُّلَّالِ لَكِنَّ أُولَئِكَ يُصَرِّحُونَ مِنْ السَّبِّ بِأَكْثَرِ مِمَّا يُصَرِّحُ بِهِ هَؤُلَاءِ . وَلِهَذَا تَجِدُ بَيْنَ " الرَّافِضَةِ " " وَالْقَرَامِطَةِ " " والاتحادية " اقْتِرَانًا وَاشْتِبَاهًا . يَجْمَعُهُمْ أُمُورٌ . مِنْهَا : الطَّعْنُ فِي خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِيمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَفِيمَا اسْتَقَرَّ مِنْ أُصُولِ الْمِلَّةِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ وَيَدَعُونَ بَاطِنًا امْتَازُوا بِهِ وَاخْتَصُّوا بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُمْ ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَلَاعِنُونَ مُتَبَاغِضُونَ مُخْتَلِفُونَ كَمَا رَأَيْت وَسَمِعْت مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْ النَّصَارَى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ عَنْ الْيَهُودِ : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } . وَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ المخلطون الَّذِينَ يَكُونُونَ تَارَةً مَعَ الْمُسْلِمِينَ - وَإِنْ كَانُوا مُبْتَدِعِينَ - وَتَارَةً مَعَ الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئِينَ . وَتَارَةً مَعَ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ . وَتَارَةً يُقَابِلُونَ بَيْنَ الطَّوَائِفِ وَيَنْتَظِرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ . وَتَارَةً يَتَحَيَّرُونَ بَيْنَ الطَّوَائِفِ . وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْأَخِيرَةُ قَدْ كَثُرَتْ فِي كَثِيرٍ مِمَّنْ انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ لَا سِيَّمَا لَمَّا ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ التُّرْكِ عَلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ بِالْمَشْرِقِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ السَّابِعَةِ .